كتب وليد العوض: بعد أن غرز الجوع أنيابه في أمعاء أطفالهم في خيام النزوح ومراكز الإيواء في رحلة نزوح مؤلمة حملتهم من بلدة بيت حانون، التي طالما كانت تتربع بزهوٍ على سلة خضارٍ طيّب المذاق تعرفه قرى ومدن محافظات غزة، حمل عشرات آلاف أبناء البلدة ما خفّ من أمتعتهم. نزحوا في بداية العدوان إلى الجنوب، لكنهم عادوا إلى بلدتهم التي ترعرعوا في مروجها الخضراء، حاولوا ترميم بيوتهم المدمرة وزراعة حواكيرهم ومئات الدونمات، لكن العدوان باغتهم مرةً أخرى، واضطروا لتجرّع كأس النزوح مرة ثانية، وهذه المرة نصبوا خيامهم البالية في شوارع مدينة غزة، وحطّوا الرحال في بعض مراكز الإيواء المزدحمة.
الشاب أشرف أحمد شبات ورفيق رحلته الأخيرة الدكتور عماد عبد الجواد أبو زريق، مع اشتداد جائحة المجاعة وبعد أن بات الجوع ينهش أمعاء أطفالهم، ذهبوا عدة مرات يبحثون عن ما يمكن العثور عليه لسدّ الرمق في منطقة تطلّ على بلدتهم بيت حانون. نجحوا مراتٍ رغم أزيز الرصاص ودوي المدافع، لكنهم صباح يوم الجمعة الموافق 20/6/2025 ذهبوا بصمتهم المعتاد، جمعوا ما تيسر لهم من أوراق الشجر وبعضٍ مما زرعوا، لكنهم لم يعلموا أن شبح الموت يخيم فوقهم في طريق العودة. هناك، على شارع صلاح الدين حيث تتمركز في السماء طائرات الموت، باغتتهم بصاروخ مزّق أجسادهم التي تناثرت وغدت أشلاء دون أن يعلم أحدٌ عن هذا المصير، مثلهم مثل المئات الذين يُقتلّون يوميًا بقصفٍ وقنصٍ لا يتوقف.
على وقع الأمل، كان الأهل—آباؤهم وأمهاتهم وإخوتهم وزوجاتهم وأطفالهم—ينتظرون بقلقٍ هذا الغياب المقلق، إذ اعتاد أهالي غزة أن مثل هذا الغياب لما بعد غروب الشمس وحلول الظلام ينبئ بالخبر السيئ. فبدأ ذوو أشرف وعماد بالبحث والتحرّي عن المكان المتوقع توجههم إليه، ناشدوا الجهات الدولية، الصليب الأحمر والهلال الأحمر، البحث عنهما والمساعدة في الحصول على أي معلومة يمكن الاستفادة منها، لكن دون جدوى. حينها قررت عائلة الشهيد أشرف شبات البحث بأنفسهم عنهما، وفي صباح يوم السبت 21/6/2025 ذهبوا تحت هدير الطائرات وأزيز الرصاص، وتحت غطاء من الكوادكابتر اللعينة. وبعد استفسارات من بعض سكان المنطقة الذين ما زالوا تحت الخطر، تبين أن المنطقة تعرضت لقصف عنيف، وأن جثثًا لمجهولين تطايرت في المكان عصر يوم الجمعة، مما زاد من الريبة والشكّ في مصير أبنائهم المتوقع.
في ساعات مساء الجمعة كان الليل يلفّ المنطقة، وتنتشر بها عدد كبير من الكلاب الضالة التي تنهش جثامين الشهداء كل يوم. وبسبب صعوبة الوضع عاد الشباب دون العثور على من يبحثون عنه، لكن بعض الشباب من آل شبات قرروا المحاولة يوم السبت رغم شبح الموت. وقد عزّزت شكوكهم المحزنة عندما شاهدوا الكلاب تتقاطر مجموعات على زوايا معينة تلتهم الأشلاء. خاطروا بحياتهم، وتنقلوا من بيتٍ لبيت بحذرٍ شديد وبخطرٍ أشدّ، حملوا معهم أدوات تساعدهم على حمل جثامين الشهداء مثل “كروسة يد” وبطانية وعصي لمواجهة الكلاب التي باتت تسرح وتمرح في المنطقة دون رادع، وقد غدت المنطقة تسكنها الأشباح.
بحث الشباب على أطراف الشوارع وجذوع الشجر، وهناك كانت أشلاء الشهيد أشرف شبات متناثرة حيث تعرف شقيقه عليها من هويته الشخصية وبطاقة الصراف التي مزقتها الشظايا. وعلى بعد أمتار قليلة تم العثور على جثة رفيقه الدكتور عماد أبو زريق متناثرة الأشلاء على أطراف الطريق. جرى كل ذلك في مغامرة تتكرر كل يوم للبحث عن مفقود سرعان ما يكون قطيع الكلاب هو الدليل القاطع على وجود أشلاء بشرية في الجوار. جمعوا أشلاء أحبّتهم لففوها بالبطانية ووضعوها على الكروسة، وطائرات الكوادكابتر تزأر وترشق رصاصها المسموم في كل صوب.
لكن بفعل عزيمة الشباب وقوة روابط الأخوّة نجحوا في تأمين وصول جثث الشهيدين إلى غرب مستشفى الدرة، لكن المفاجأة التي تدمع لها العيون كانت أثناء تجميع الجثث، إذ تبين أن قدم أحد الشهداء لا تزال ناقصة وبقيت في المكان، فقرر شقيقه ألا يتركها لتنهشها الكلاب، وعاد مخاطرًا حتى استعادها لتكتمل الجثة بأطرافها الأربعة. إنها قدم الشهيد؛ هذه هي أشرف من رأس كل الذين يستخفون بأرواح الناس ودماء الأطفال ويعتبرونها من شرفات فنادقهم خسائر تكتيكية يمكن إعادة إنتاجها.
وبعد أن تمت عملية استعادة الجثامين، بدا أن إجراءات التشـييع والدفن ستكون وداعًا مؤلمًا وقاسيًا من ذوي الشهداء، وُورِيَ الثرى في مقبرة الشيخ رضوان. هنا حيث، كما قلت في مقال سابق، “إنه موت وخراب ديار”، حيث لا يمكن أن تضع الميت في قبره ليستريح إلا بعد دفع مبلغ 1000 شيكل ثمنًا لكل قبر، وطبعا دون أن تحصل على إيصال، ولا حتى معرفة هوية الجهة التي تتحصل هذا المبلغ دون وصل دفع لأي جهة رسمية يمكن مساءلتها.
اليوم الثلاثاء ذهبت عزاءً إلى أسرة شبات التي أعرفها وأعتز بها منذ أن كنت أزورهم في بيت حانون حيث العز وحسن الاستقبال وكرم الضيافة. زرتهم اليوم معزيًا باستشهاد نجلهم في مركز إيواء، وكان والده المكسور غلبت التجاعيد جبينه والدموع كادت أن تتحجر في مقلتيه. الابتسامة وخفة الظل التي كانت تميزه غابت، ويبدو أنها لم تغب عنه وحده بل عنّا جميعًا، بعد أن ترك مصيرنا بيد الجهلاء والمراهقين والمراهنين على الأوهام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت