يواصل الاحتلال الإسرائيلي فرض قيود مشددة على قطاع الصيد البحري في قطاع غزة، عبر قرارات متتالية تمنع الفلسطينيين من دخول البحر، ما تسبب في شلل شبه كامل لهذا القطاع الحيوي، الذي لطالما كان مصدر رزق لنحو 6,000 فلسطيني، ومصدرًا أساسيًا للأمن الغذائي لأكثر من مليوني نسمة يعيشون في ظروف حصار خانقة.
في بيان نشره عبر "تلغرام"، حذّر المتحدث باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، سكان غزة من دخول البحر، معتبرًا إياه "منطقة محظورة"، ومؤكدًا أن "كل من يخرق هذه التعليمات من صيادين وسباحين وغواصين يعرض نفسه للخطر".
قيود مطلقة وحصار متكامل
القرار العسكري الإسرائيلي الأخير، الذي صنّف البحر كمنطقة عسكرية مغلقة، يقضي بمنع الفلسطينيين من مجرد الاقتراب من الشاطئ الممتد بطول 44 كيلومترًا. وترافق القرار مع تصعيد ميداني تمثل في تمركز مكثف لزوارق وبوارج الاحتلال الحربية على بعد مئات الأمتار فقط من اليابسة.
القيود هذه تقضي على آخر متنفس للمواطنين، خصوصًا في ظل منع دخول اللحوم والأسماك منذ أكثر من أربعة أشهر ونصف، ما جعل السمك المورد الوحيد المتبقي للبروتين والمغذيات. كما أُجبر مئات الصيادين، الذين كانوا يخاطرون يوميًا بالنزول لمسافات قريبة لصيد الأسماك، على التوقف تجنبًا لخطر القتل أو الإصابة.
وتؤكد البيانات أن أكثر من 90% من مراكب وقوارب الصيادين دُمرت بشكل كلي، إلى جانب تدمير غرف التخزين، مصانع الثلج، والحسبة البحرية الرئيسية، مما أدى إلى فقدان 4,500 صياد و1,500 عامل في مهن مرتبطة بالصيد مصدر دخلهم الوحيد.
من جانبه، قال زكريا بكر، منسق لجان الصيادين في غزة، لقدس نت ، إن "الاحتلال دمّر نحو 95% من ممتلكات الصيادين، وقضى تمامًا على القطاع، ما انعكس سلبًا على الأمن الغذائي لما يقارب مليوني فلسطيني".
بدوره، قال الصياد محمود ابو القمصان لقدس نت إن "الأسماك التي كانت تشكل مصدرًا مهمًا للبروتينات أصبحت شبه منعدمة، ومع ذلك فإن القليل المتوفر يُباع بأسعار خيالية تتجاوز 300 شيكل للكيلو الواحد، مقارنة بـ20 شيكلًا سابقًا، وهو ما يفوق قدرة غالبية السكان على الشراء".
ويؤثر الحظر البحري بشكل مباشر على آلاف النازحين الذين يعيشون في خيام بمحاذاة الشاطئ، حيث يعتمدون على مياه البحر لتلبية احتياجات النظافة الشخصية وغسل الأدوات المنزلية، في ظل انعدام مصادر مياه بديلة. وحذر نازحون من أن القرار قد يؤدي إلى تفشي الأوبئة والأمراض بين السكان، خاصة الأطفال، في ظل عدم توفر الحد الأدنى من مقومات الحياة.
وفي ظل الانهيار الكامل لمرفأ غزة البحري، واستمرار منع دخول اللحوم والأسماك إلى القطاع، أصبحت الأسماك، رغم ندرتها، المصدر الوحيد المتبقي للبروتين، خصوصًا للفئات الأشد ضعفًا كالأطفال والمرضى وذوي سوء التغذية.
ضحايا مستمرون: مئات القتلى والجرحى من الصيادين
وفق تقرير مشترك صادر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان وشبكة المنظمات الأهلية في غزة، قُتل 202 من العاملين في قطاع الصيد منذ بداية الحرب، بينهم 50 قضوا أثناء ممارستهم عملهم في البحر. كما سُجل أكثر من 300 إصابة، منها 20 وقعت داخل البحر مباشرة. وأكد التقرير أن نحو 95% من القوارب والمراسي وغرف التخزين ومرافق الميناء تعرّضت للتدمير الكامل، مما تسبب بفقدان 4,500 صياد و1,500 عامل مصدر دخلهم.
زكريا بكر، منسق لجان الصيادين، أكد أن قوات الاحتلال دمرت "جميع المراكب في مدينة غزة باستثناء قارب واحد فقط"، مضيفًا: "الاحتلال دمّر قطاع الصيد كليًا، وحرَم آلاف الأسر من لقمة العيش".
مأساة النازحين على الشاطئ
القرار العسكري الإسرائيلي لم يستهدف الصيادين فقط، بل أثر مباشرة على عشرات آلاف النازحين الذين يسكنون في خيام على امتداد الشاطئ من جباليا حتى النصيرات، ويعتمدون على مياه البحر في النظافة والاستخدامات اليومية.
يقول المواطن ماهر حمودة، من نازحي غرب غزة: "نعيش الآن في رعب. الزوارق الحربية تقترب من الشاطئ بشكل غير مسبوق. قررنا تحصين الخيام من الجهة الغربية خوفًا من الاستهداف". أما أسعد أبو جراد، فقد حذر من "انتشار الأوبئة بسبب انعدام المياه البديلة"، قائلاً إن البحر كان هو المورد الوحيد للنظافة الشخصية ومستلزمات الأطفال.
السوق ينهار: ارتفاع جنوني في أسعار الأسماك
تشير إفادات الصيادين إلى تراجع الإنتاج اليومي إلى أقل من 500 كغم من السمك، مقابل آلاف الكيلوجرامات سابقًا، ما تسبب في ارتفاع سعر الكيلو من 25 شيكلًا إلى 400 شيكل، وهو ما لا يقدر عليه أغلب السكان.
الصياد محمود الهسي، الذي فقد ثلاث مراكب كبيرة، قال: "حتى لو سمحوا لنا بالصيد، لم تعد هناك قوارب. هناك 47 قاربًا صغيرًا فقط تحاول تغطية سوق يعجز عن تلقي الطلب".
تقارير دولية تحذر: الأمن الغذائي في غزة على شفا الانهيار
في تقرير سابق، حذرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) من أن تدمير البنية التحتية لقطاع الصيد البحري في غزة سيؤدي إلى أزمة غذائية غير مسبوقة. وأكد التقرير أن البحر، الذي كان يومًا ما مصدرًا أساسيًا للبروتين، لم يعد متاحًا، ما يهدد بشكل مباشر صحة الفئات الأضعف، من مرضى وأطفال وكبار سن.
"لن نترك البحر"
رغم ذلك، لا يزال هناك من يصر على الصمود. يقول الصياد زكي النجار، الذي فقد شقيقه قبل أسابيع: "نواجه الموت كل يوم. نعود بالأسماك بثمن الدم. البحر حياتنا، ولن نتركه مهما كلف الأمر".
في ضوء ما سبق، يكشف منع الاحتلال الإسرائيلي للصيادين من دخول البحر في قطاع غزة عن جانب آخر من سياسة الحصار الشامل، التي تستهدف تدمير مقومات الحياة والاقتصاد المحلي، وتزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية المتفاقمة. إن ما يشهده قطاع الصيد ليس مجرد قيود أمنية، بل هو خنق ممنهج لمصدر رزق آلاف العائلات وتهديد مباشر للأمن الغذائي لسكان يعيشون تحت الحصار والدمار منذ شهور. ويؤكد ذلك ضرورة تحرك عاجل من المجتمع الدولي لوقف هذه الانتهاكات، وضمان حق الفلسطينيين في العيش بكرامة والعمل بحرية، وفق ما تكفله القوانين الدولية والإنسانية.