بقلم / مصطفى إبراهيم :- كل دقيقة إضافية من حرب الإبادة في غزة هي كارثة. ليست كارثة على الغزيين فقط، بل على العالم، وخصوصاً على الإسرائيليين أنفسهم. لكن حكومة الاحتلال الفاشية التي تقود الحرب لا تفكر في الكارثة، بل في البقاء، عبر تحقيق أهدافها العنصرية بالتهجير القسري واحتلال قطاع غزة. لا تسأل: ما ذنب الرضيع الذي بلون الموت؟ بل تسأل: هل يمكن أن نجعل موته أداة ضغط إضافية؟
قبل يومين، بدا وكأن هناك تحولًا في الخطاب الصحافي الإسرائيلي. ظهرت عناوين تقول: هناك أطفال جائعون في غزة، ويجب الاعتراف بذلك وتغيير طريقة توزيع المساعدات الإنسانية فوراً. على الصفحات الأولى لبعض الصحف، ظهر جسد رضيع هزيل، شاحب، كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
من يعرف ما معنى أن يبحث رضيع عن حلمة ليرضع منها، يدرك أن ما يجري ليس "ردعاً" ولا "وسيلة ضغط". إنه قتل. تعذيب ممنهج لطفل لا يستطيع حتى أن يبكي. لكن هذا التحول مؤقت، وليس صحوة ضمير إنسانية، بل شكل آخر من أشكال البروباغندا. في غزة، لا يتوفر لا الحليب الصناعي ولا الماء. الأمهات الجائعات لا يستطعن الإرضاع، والحليب المجفف تحوّل إلى سلاح تفاوضي يُمنع عن الأطفال عمداً.
في دولة الاحتلال، تشكّل إجماع قومي صهيوني على إبادة غزة وأهلها. حتى من يصفون أنفسهم بـ"اليسار"، يردد كثيرون منهم دون خجل: "يجب تجويعهم حتى يُفرَج عن المخطوفين". هذه ليست سياسة، بل قسوة فاشية خلاصية خالصة.
النقاشات التي تدور في دولة الاحتلال عن "من يمنع الغذاء، حماس أم إسرائيل؟"، تنهار أمام زجاجة حليب فارغة. من يسيطر على المعابر؟ من يفرض الحصار والعقاب الجماعي؟ من يمنع الأمم المتحدة من العمل؟ من يقصف الأطفال وهم يركضون نحو كيس طحين؟
من السخف الحديث عن "أخلاقيات الحرب" بينما الرضّع يموتون. هذه ليست "عملية عسكرية"، بل جريمة إبادة جماعية ممنهجة.
قد لا ينتهي بنك الأهداف أبدًا، لأن الهدف ليس القضاء على حماس، بل تحقيق مكاسب سياسية. إسرائيل كشفت عن وجهها الحقيقي أمام "العالم المتحضّر"، كما يسمونه، وأمام العالم "الحر"، الذي يشكّل الداعم الحصري لدولة الاحتلال.
دولة ترى نفسها "الخط الأمامي ضد بربرية الشرق"، كما وصفها ثيودور هرتسل، وتحوّلت إلى آلة همجية في ترس "العالم الحر"، بينما لا تزال أوروبا وسيدة هذا العالم تساندان سياساتها البربرية.
في غزة، كل شيء ينهار: الأسعار جنونية، القروض تتضاعف، السلطة غائبة وعاجزة، لا صلة لها بالحدث ولا تأثير، والحكومة تتفرّج. قلّة من التجار الفاسدين، ممن يستغلون المأساة لتكديس الأرباح، يحققون أرباحاً خرافية، بينما لدى الحكومة القدرة على فرض عقوبات عليهم. لكن يبدو أنها "فترة معجزة" لأرباب الحرب، وجحيم لمن بقي على قيد الحياة.
وبين هذا وذاك، تصل أنباء من مفاوضات لا تتحرك. حماس قدّمت رداً "أكثر إيجابية" على مقترح وقف إطلاق النار، وفقاً للمصادر الإسرائيلية. إسرائيل تماطل، تدرس، تجتمع، تتشاور، لكنها لا تنوي التنازل. لا تريد وقف الحرب، بل إدارة حرب أبدية، حتى لو كان الثمن إبادة قطاع غزة بالكامل.
المطالب الفلسطينية معروفة ولم تتغير: وقف الحرب، انسحاب الجيش الإسرائيلي، فتح المعابر، ضمان دخول المساعدات، والإفراج عن الأسرى. ومع ذلك، الرد الذي وُصف بـ"المحسَّن" قوبل ببرود، وكأن المطلوب هو استسلام، لا اتفاق.
والسؤال: ماذا بعد؟ وما هي خيارات حماس؟ في غزة، لا وقت للنقاشات.
قيادة حماس في الخارج مطالبة بأن تكون أكثر وضوحًا، وأكثر مسؤولية في خطابها. لا يكفي إطلاق التصريحات المنمّقة فيما يموت الناس جوعاً، ولا يجوز أن يتصرّف بعضهم وكأنهم وكلاء سياسيون يتاجرون في سوق الحرب، بينما من في الداخل يدفع الثمن الفادح.
المطلوب ليس المزايدة، بل مصارحة ومواقف مسؤولة.
هناك أجساد تموت، بطون خاوية، وعالم يتفرج. من ينتظر "نضوج اللحظة السياسية"، فليقرأ شهادات الأطباء عن الأطفال الذين يموتون بلا طعام. من يعتقد أن "الضغط على حماس" مبرر، فلينظر إلى صورة رضيع لم يعرف من هذا العالم سوى الجوع والموت والظلام.
لا يحتاج العالم إلى أدلة إضافية على الجريمة. يحتاج فقط أن ينظر جيداً، ويتوقف عن التأمر والتواطؤ. فحين يصبح الحليب سلاحاً، والرضيع هدفاً عسكرياً، تسقط الإنسانية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت