تقرير ألاء أحمد - في قطاعٍ يعاني من واحدةٍ من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، تتجسد المعاناة في أقسى صورها بين أولئك الذين لا يملكون القدرة على الصراخ أو الهرب أو التكيف: مصابو الشلل الدماغي في قطاع غزة، والذين يُقدّر عددهم بما يزيد عن 6,500 شخص، بينهم أكثر من 1,200 طفل، يواجهون اليوم خطر الإبادة الصامتة وسط انهيار الخدمات الأساسية، وتوقف منظومة الرعاية، وغياب الدعم الدولي الفاعل.
شلل مزدوج: الجسد والنظام
الشلل الدماغي هو اضطراب عصبي دائم يصيب الحركة والقدرة على التحكم العضلي منذ الطفولة المبكرة. لكنه في غزة اليوم بات يُجسّد شللاً مضاعفًا: جسديًا لدى المصابين، ومؤسسيًا لدى الجهات التي يُفترض أن تحميهم. الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023 قضت على البنية الصحية والمجتمعية الهشة أساسًا، وحوّلت القطاع إلى مكان غير قابل للحياة، بحسب تقارير أممية.
وفق بيانات محلية، فإن أكثر من 90% من مصابي الشلل الدماغي يعيشون تحت خط الفقر، في ظل فقدان شبه تام للدخل، وصعوبة الوصول إلى الغذاء والدواء والرعاية المتخصصة. ومع انقطاع الكهرباء لأكثر من 18 ساعة يوميًا، وعدم توفر الوقود، توقفت الأجهزة المساعدة مثل أجهزة التنفس والتغذية الأنبوبية التي يعتمد عليها عدد كبير من المصابين.
“لا دواء، لا غذاء”
في شهادة مؤلمة أدلت بها إحدى الأمهات، قالت "ابني لا يستطيع الجلوس أو البلع. كنا نذهب إلى مركز تأهيل أسبوعيًا، الآن لا يوجد مركز ولا دواء ولا وسيلة مواصلات. نستخدم المياه الملوثة لتحضير طعامه. يعاني من نوبات صرع متكررة ولم أتمكن من شراء الدواء منذ شهور. لا أحد يسمعنا."
هذه القصة ليست حالة فردية. فبحسب تقييم ميداني أُجري في يونيو 2024، تبين أن 80% من الأطفال المصابين بالشلل الدماغي يعانون من سوء تغذية حاد. بل إن بعضهم، بحسب شهادات فرق طبية محلية، توفي نتيجة نقص العلاج أو سوء التغذية أو الجفاف.
مراكز أُبيدت... ومساعدات محظورة
قبل الحرب، كانت هناك أكثر من 10 مراكز تأهيل تقدم خدمات العلاج الطبيعي والدعم الحسي والحركي والنفسي للأطفال المصابين. اليوم، دُمّرت هذه المراكز أو أُغلقت بسبب القصف أو نقص التمويل أو تعذر الوصول. كما توقفت برامج المساعدات الدولية التي كانت توفر الحفاضات، الكراسي المتحركة، أجهزة التغذية، والمكملات الغذائية.
وحتى في ظل مبادرات فردية من المجتمع المحلي، فإن شحّ الموارد والقيود الإسرائيلية على دخول المستلزمات الطبية حالت دون أي استجابة مستدامة.
الاحتلال يمنع الأجهزة والعلاجات
تفرض سلطات الاحتلال قيودًا صارمة على إدخال المعدات الطبية الخاصة بذوي الإعاقة، بما في ذلك كراسي الأطفال المتحركة، وأجهزة التغذية الأنبوبية، والمكملات الغذائية الخاصة. ورغم المناشدات الدولية، لم يُفتح ممر إنساني آمن حتى الآن لتلبية احتياجات هذه الفئة، التي تُعد من الفئات المحمية بموجب اتفاقيات جنيف.
المجاعة كأداة حرب
وفقًا لتصنيف الأمن الغذائي المرحلي المتكامل (IPC)، يعاني 1.1 مليون شخص في غزة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، نصفهم تقريبًا في المرحلة الخامسة (المجاعة). بالنسبة للمصابين بالشلل الدماغي، الذين لا يمكنهم الأكل أو البلع طبيعيًا، فإن هذا يعني الموت البطيء. تشير التقارير إلى أن 22% من هذه الفئة تعاني من الهزال الحاد، و14% باتت في مرحلة الخطر السريري المباشر بسبب غياب التغذية المتخصصة (Enteral Feeding).
وطالبت عدد من العائلات والمؤسسات التي توجهت لها مراسلة قدس نت إلى بعض التوصيات العاجلة منها العمل على فتح ممر إنساني عاجل لإدخال المعدات الطبية والمساعدات الخاصة بذوي الإعاقة.
ضرورة توفير وحدات تغذية أنبوبية آمنة للأطفال المصابين ومنع موتهم جوعًا.
العمل على إعادة تشغيل مراكز التأهيل المجتمعية التي توقفت عن العمل منذ بدء الحرب.
توفير الحماية القانونية والإنسانية لذوي الإعاقة، ومنع استهداف المراكز التي تقدم لهم الخدمات، والضغط على الاحتلال لرفع الحظر عن دخول الأدوات المساعدة والمستلزمات الصحية الخاصة.
صرخة في وجه التواطؤ
تؤكد منظمات المجتمع المدني في غزة أن استمرار تجاهل المجتمع الدولي لمعاناة هذه الفئة هو تواطؤ مباشر في جريمة مركبة تشمل الإبادة والتجويع والتطهير. فمصابو الشلل الدماغي في غزة لا يملكون صوتًا في معادلة الحرب والسياسة، لكنهم يختنقون يوميًا بصمت القنابل وصمت العالم.
"من حق هؤلاء الأطفال أن يعيشوا... أن يُطعَموا... أن يتلقوا علاجًا... أن يُنظر إليهم كبشر، لا كأرقام في تقارير المنظمات الأممية." – بهذه الكلمات اختتمت إحدى الأمهات مقابلتها، وهي تضم ابنها المرهق بجسدٍ بالكاد يتحرك.