كتب: وليد العوض
في الرابع من آذار 2024، توقف قلب إسماعيل قرشولي الطيب عن الخفقان. كان جاري وصديقي، يسكن مع ابنته الوحيدة لينا على بُعد مئتي متر من منزلي في جنوب غرب مدينة غزة، وتحديدًا في حي تل الهوى. ذلك الحي الذي نال نصيبًا ثقيلًا من القصف خلال الأشهر الأولى من العدوان، حيث تهاوت الأبراج، وجُرفت الشوارع، ونسفت البنايات. لم يبقَ من السكان إلا قلة قليلة، وكنا نحن من بينهم. انتقلتُ في الشهر الأول من الحرب إلى عمق مدينة غزة، ثم عدتُ إلى منزلي لاحقًا.
الصديق سماعيل قرشولي ، الأب الحنون، تنقل مع ابنته لينا لأربعة أشهر تحت وابل القصف، باحثًا عن مأوى آمن رأيته ذات يوم في ميدان فلسطين وقد غطته سحب الدخان ، وأخبرته أنني عدت لمنزلي في 22 كانون الأول 2023. لم يقل شيئًا، فقط رمقني بنظرة متعبة وقال: "أنا تعبت، بس ما بدي أترك غزة، ولا أترك لينا".
تفقد منزله بعد أيام من لقائه معي، فوجد حطامًا لا يصلح للسكن. وأثر ذلك بحثَ عن منزلٍ يطل شرفته على بيته المدمر. أمضى أيامًا يرمم الشقة التي وجدها ليقيم فيها مؤقتًا، وأضناه التعب والإرهاق ، كنت مصرًا أن يبيت في منزلي حتى الانتهاء من ترتيب البيت وتوفير سبل الحياة المعدومة في منطقة لا حياة فيها إلا بعض الأمل. مع ساعات الصباح الأولى من يوم الرابع من آذار عام 2024، أصيب إسماعيل بنوبة قلبية مفاجئة، وفاضت روحه في بيتي دون أن يجد من يودعه كما يليق برجل عاش نقيًا. حملناه على عجل تحت وابل القصف، ملفوفًا بعلم فلسطين، ودفناه مؤقتًا في ساحة مستشفى الشفاء. رحل، وترك ابنته لينا أمانة عندنا .
عدتُ بها إلى منزلي مع زوجتي وبناتي. أصبحت لينا واحدة منا. قصف عنيف، وحصار متعدد لايام طوال ، ومياه مقطوعة، وخبز لا يكفي، لكننا تقاسمنا كل شيء حتى الألم . عند اشتداد القصف، كنت أنقلهم من غرفة إلى أخرى، ومن درج إلى درج ، كنت افرض عليهم قيودا صارمة بمنع فتح الجوالات طيلة ايام الحصار يشتد قلق الاحبة الذين ينتظرون مكالمة تنبأهم باننا ما زلنا أحياء . ومع كل خطر، كنت أحرص على بناتي وزوج ابنتي، ولكن كنت أحرص أكثر على لينا. لم تكن ابنتي، لكنها الأمانة التي تركها إسماعيل.
حين تناثرت أبواب المنازل وسقط الزجاج علينا، قفزت لينا لتسحبني من تحت الركام كأنها رجل بصلابة الجبل. كانت تتصرف وكأنها حارسة للعائلة، لا مجرد ضيفة أو لاجئة. ومع توالي الأيام، صار حضورها جزءًا من تفاصيلنا اليومية؛ لا تكتمل الجلسة إلا بصوتها، ولا تهدأ العائلة إلا حين نطمئن أنها بخير.
قبل أشهر، تمّت خطبتها على شاب محترم من مدينة غزة، وسط فرحة غامرة خالطها وجع الغياب. لم يكن والدها حاضرًا، لكنه كان في قلبها، وفي قلوبنا جميعًا.
وغدًا سنقيم حفل زفاف لينا التي لم تكن مجرد أمانة تركها والدها، بل صارت ابنة ليس لأسرتي فحسب بل أبنة لنا جميعًا في برج الظافر ٢ ، تمثل شعاع أمل يضيء وسط ركام الموت. اليوم تخرج من بيتي عروسًا، تحمل في قلبها رسالة الحياة التي تستمر رغم الألم، والانتقال من زمن الحزن إلى زمن النهوض.
غزة –23 آب / أغسطس 2025
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت