لم يجد آلاف السكان في بلدة جباليا النزلة خلال الأيام الثلاثة الماضية سوى افتراش الأرض بعد أن أجبرتهم موجات القصف العنيف على الفرار القسري من منازلهم، ولا سيما في حيّ النزلة غرب جباليا، حيث تقدّمت الآليات والدبابات سريعًا وسط وابلٍ من القنابل والصواريخ دمّر الحيّ بشكل شبه كامل.
وبحسب إفاداتٍ محلية، لم تتوقف الغارات والقصف المدفعي طوال الأيام الثلاثة، ما أعاق خروج عشرات الأسر التي حوصرت بالنيران والطائرات المسيّرة. وأسفر القصف عن سقوط عدد كبير من الضحايا، عرف من بينهم عائلات: سالم السويركي، طالب أبو وردة، سعيد شوحة، شادي بهجة، فيما تعذّر إجلاء جثامين كثيرين وبقي مصابون ينزفون بسبب عدم قدرة الإسعاف والدفاع المدني على الوصول.
وأكد شهود أن مدفعية الاحتلال استهدفت خيامًا أقامها نازحون بين المنازل المدمّرة، من بينهم أسرة جهاد السواركة التي فقدت معظم أفرادها. كما استشهد طالب أبو وردة وابنه عمر ووالدته جميلة خلال محاولتهم إنقاذ جرحى أصيبوا بقصف منزل سعيد شوحة، إذ استهدفتهم طائرة مسيّرة بصاروخ فأردتهم على الفور وحاصرت باقي أفراد الأسرة داخل المنزل.
وفي محيط مسجد حراء، أكملت طائرات الاحتلال تدمير مربعات سكنية كاملة، بينها خمسة منازل لعائلة أبو خليفة كان قاطنوها قد نزحوا قبل لحظات من القصف. ويأتي ذلك بينما يعلن الجيش الإسرائيلي عمليات تمهيدية في حي الزيتون وجباليا النزلة استعدادًا لما يصفه بـ«عملية السيطرة على مدينة غزة»، في وقتٍ يقول سكان وناشطون إن ما يجري هو «إبادة صامتة» تطال البشر والحجر على حد سواء.
ويُعدّ هذا الهجوم الأكبر بين ما يزيد على خمسة اجتياحات واسعة نفّذتها قوات الاحتلال في جباليا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ووفق تقديرات ميدانية، يستهدف الهجوم الحالي استكمال تدمير نحو 15% من المباني التي لم تُدمّر في الاجتياح الأخير (منذ مطلع أيار/مايو وحتى مطلع آب/أغسطس). وخلال أربعة أيام فقط، سوّت القوات أعدادًا كبيرة من المنازل بالأرض عبر تفجيرات ضخمة نفّذتها آليات مفخخة وغارات طائرات مقاتلة.
ولفت سكّان إلى استخدامٍ متزايدٍ لسلاح جديد تمثّل في طائرات مسيّرة كبيرة الحجم تحمل صندوقًا مملوءًا بالمتفجّرات وتُلقيه فوق المنازل أو في الأزقّة. وتحلّق هذه الطائرات على ارتفاعات منخفضة (نحو 30 مترًا)، وتقوم برصد الحركة داخل المنازل ثم إسقاط الصناديق على الأسطح أو أمام الأبواب أو بمحاذاة الجدران، مسبّبة دمارًا هائلًا.
وبقي عددٌ محدود جدًا من أهالي حيّ النزلة غير قادرين على تحمّل تكاليف النزوح المتكرر؛ يقول بعضهم إنهم يفضّلون البقاء والموت في منازلهم على التشرّد في الشوارع. ووجّه هؤلاء مناشداتٍ عبر وسائل التواصل والإعلام لتسليط الضوء على أوضاعهم والضغط من أجل وقف الهجوم. ويأمل النازحون أن يقتصر ترحالهم على داخل مدينة غزة، وألّا يُدفعوا مجددًا للنزوح جنوبًا كما تردهم إنذارات واتصالات ورسائل نصية ومنشورات تُلقيها الطائرات.
تتقاطع عمليات التهجير القسري مع تدميرٍ ممنهجٍ للمناطق التي تُدفع إليها العائلات، ما يرسّخ قناعة السكان والهيئات الحقوقية بأن لا مكان آمن في قطاع غزة، وأن الدورة المستمرة من القصف–النزوح–القصف باتت واقعًا يوميًا يهدّد حياة الآلاف ويقوّض أي إمكانية لاستقرارٍ إنساني في المدى القريب.