مع اقتراب افتتاح العام الدراسي الجديد 2025–2026، يكشف تقرير جديد صادر عن جمعية "عير عميم" الإسرائيلية، أن السلطات الإسرائيلية في القدس الشرقية تواصل تنفيذ سياسة منهجية تهدف إلى تقويض النظام التعليمي الفلسطيني، عبر إجبار الأهالي والطلاب على الاختيار بين نقص حاد ومزمن في الغرف الصفية والمدارس، أو التخلي عن المنهاج الفلسطيني والانضمام إلى المنهاج الإسرائيلي، بما يحمله ذلك من أبعاد سياسية وثقافية تتعلق بالهوية الوطنية الفلسطينية.
أزمة الغرف الصفية أداة ضغط سياسي
بحسب التقرير، فإن نقص الفصول الدراسية في القدس الشرقية بلغ 1,461 فصلًا وفق بيانات بلدية الاحتلال، وهو نقص خطير ينعكس في اكتظاظ الصفوف، تردي البنية التحتية المدرسية، واستخدام مبانٍ قديمة غير مؤهلة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة.
ويشير التقرير إلى أن هذا النقص، بدلًا من أن تتم معالجته عبر بناء مدارس جديدة تلبّي احتياجات الطلاب، أصبح أداة سياسية بيد الحكومة الإسرائيلية وبلدية القدس، حيث تشترط الأخيرة أن تكون أي مدرسة جديدة تُبنى ضمن خطط التنمية خاضعة بالكامل للمنهاج الإسرائيلي، وهو ما يجبر الطلاب الفلسطينيين على المفاضلة بين الحق الطبيعي في التعلم وبين الحفاظ على هويتهم الوطنية والثقافية.
ارتفاع ملحوظ في الالتحاق بالمنهاج الإسرائيلي
أظهر التقرير أن عدد الطلاب الفلسطينيين الذين يدرسون المنهاج الإسرائيلي ارتفع بشكل غير مسبوق خلال العام الدراسي 2024–2025، حيث بلغ نحو 22,966 طالبًا، أي ما نسبته 27% من الأطفال الفلسطينيين بين 6 و17 عامًا في القدس الشرقية.
وترى جمعية "عير عميم" أن هذه الأرقام تعكس تصعيدًا خطيرًا في سياسة الاحتلال التعليمية، بما يهدد استقلالية النظام التعليمي الفلسطيني، ويمثل مساسًا مباشرًا بحقوق الطلاب في التعليم وفق هويتهم وتراثهم.
تشريعات تضيق الخناق على التعليم الفلسطيني
ولم تتوقف السياسات الإسرائيلية عند هذا الحد، بل رافقتها موجة تشريعية غير مسبوقة استهدفت بشكل مباشر النظام التعليمي الفلسطيني في القدس خلال العام الماضي. ومن أبرز هذه التشريعات:
-
كانون الثاني/ يناير 2025: دخول قانون حظر أنشطة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" حيّز التنفيذ، ما أدى إلى إغلاق سبع مدارس كانت تخدم نحو 1,100 طالب في القدس.
-
قانون مضايقة المعلمين: منح وزير التعليم الإسرائيلي صلاحية سحب التمويل ومنع توظيف المعلمين استنادًا إلى آرائهم العلنية أو السياسية، وهو ما يفتح الباب أمام رقابة سياسية صارمة على العاملين في القطاع التعليمي.
-
تموز/ يوليو 2025: طرح مشروع قانون يمنع توظيف خريجي الجامعات الفلسطينية، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من أزمة نقص الكوادر التدريسية في القدس، ويُضعف بشكل مباشر استمرارية النظام التعليمي الفلسطيني.
وتشير "عير عميم" إلى أن هذه القوانين ليست سوى جزء من سياسة شاملة تهدف إلى إضعاف التعليم الفلسطيني واستبداله تدريجيًا بالمنهاج الإسرائيلي، في إطار محاولات أوسع لـ"أسرلة" المجتمع المقدسي والسيطرة على وعي الأجيال الجديدة.
ضغوط على الطلاب والأهالي
يرى معدو التقرير أن الطلاب المقدسيين وأسرهم يعيشون تحت ضغوط متصاعدة، إذ يجدون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما القبول بالاكتظاظ ونقص الغرف الصفية والمباني المتهالكة، أو التوجه إلى مدارس تُدرّس المنهاج الإسرائيلي، الذي يعتبرونه أداة لطمس الهوية الوطنية والثقافية الفلسطينية.
وبحسب التقرير، فإن إسرائيل تستغل الأزمة التي صنعتها بنفسها عبر سنوات من منع تراخيص البناء للمدارس الفلسطينية، من أجل فرض أجندتها التعليمية والسياسية على سكان القدس الشرقية.
الأبعاد الإنسانية والثقافية للأزمة
لا تقتصر خطورة هذه السياسات على البعد التعليمي فقط، بل تتجاوز ذلك إلى محاولة محو الهوية الفلسطينية من الوعي الجمعي للأجيال الناشئة. فالمنهاج الإسرائيلي يسعى – بحسب خبراء تربويين – إلى إعادة تشكيل الانتماء الثقافي والتاريخي للطلاب، عبر تغييب الرواية الفلسطينية، وتقديم مضامين تعليمية تتعارض مع تراثهم الوطني وتاريخهم.
كما أن منع خريجي الجامعات الفلسطينية من التدريس، وإغلاق مدارس "أونروا"، يفاقمان من أزمة البطالة بين المعلمين الشباب، ويحرمون آلاف الطلبة من مؤسسات تعليمية طالما شكّلت ركيزة في خدمة المجتمع المقدسي.
أبعاد سياسية واستراتيجية
يؤكد التقرير أن ما يجري في القدس الشرقية ليس مجرد إصلاح تعليمي مزعوم، بل هو سياسة ممنهجة لفرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المدينة، عبر تغيير البنية التحتية التعليمية، وفرض منهاج جديد يعيد تشكيل هوية السكان الفلسطينيين.
كما يشير إلى أن هذه الخطوات تأتي في سياق أوسع من محاولات الاحتلال لتكريس "السيادة الإسرائيلية" على القدس، من خلال ضرب كل مظاهر الاستقلالية الفلسطينية في قطاعات التعليم، الصحة، والبلديات.
موقف المؤسسات الحقوقية
اعتبرت جمعية "عير عميم" أن السياسة الإسرائيلية الجديدة تمثل هجومًا مباشرًا على حق أطفال القدس الشرقية في التعلم وفق هويتهم وتراثهم وثقافتهم. وأضافت أن الدولة "تستغلّ النقص الحاد في الغرف الصفية الذي تسببت به عمدًا، لفرض ضغوط سياسية على الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين"، مؤكدة أن ذلك يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني ولاتفاقية حقوق الطفل.
تسلط أزمة التعليم في القدس الشرقية الضوء على واحدة من أكثر أدوات الاحتلال خطورة في فرض سياساته الاستعمارية، إذ لا يقتصر الأمر على السيطرة على الأرض والمكان، بل يمتد إلى محاولة السيطرة على العقل والوعي عبر فرض المناهج وتقييد الهوية الوطنية.
ومع استمرار هذه السياسات، يتوقع مراقبون أن يشهد العام الدراسي المقبل مزيدًا من الضغوط على الطلاب والأهالي، في ظل غياب أي حلول جدية لمعالجة نقص الغرف الصفية إلا عبر الخضوع للشروط الإسرائيلية، ما يجعل التعليم الفلسطيني في القدس الشرقية رهينة لسياسات الاحتلال وأداة لابتزاز الأسر الفلسطينية.