تشهد الأوضاع المالية العامة في فلسطيني واحدة من أعقد أزماتها منذ تأسيس السلطة الوطنية عام 1994، مع تضخم الدين العام وتراكم أعباء العجز المزمن في الموازنة، في ظل سياسات إسرائيلية مقيدة للاقتصاد، وضعف الموارد الذاتية، وتراجع الدعم الخارجي. ويكشف تقرير حديث صادر عن وزارة المالية وسلطة النقد الفلسطينية عن ملامح هذه الأزمة وأبعادها الممتدة، مع تسليط الضوء على محاولات الإصلاح المالي القائمة، ورؤية مستقبلية لتفادي الانهيار المالي.
أعباء الدين العام.. من أين بدأت القصة؟
بدأت مشكلة الدين العام الفلسطيني مبكرًا مع نشوء السلطة، نتيجة ضعف الإيرادات المحلية، والاعتماد الكبير على أموال المقاصة التي تجبيها إسرائيل وتتحكم في تحويلها. وقد تزايدت الحاجة إلى الاقتراض منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، حين تراجعت الإيرادات بشكل كبير، وتضاعفت النفقات العامة المرتبطة بالقطاعين الصحي والتعليمي وبنية الأمن، الأمر الذي فاقم العجز المالي بشكل مطرد .
وبحسب بيانات وزارة المالية، بلغ الدين العام حوالي 1.18 مليار دولار عام 2000، لكنه قفز خلال سنوات قليلة ليصل إلى 2.8 مليار دولار عام 2004، نتيجة التوسع في الاقتراض الخارجي والداخلي لتغطية العجز الجاري . واستمر التصاعد في العقدين التاليين، مدفوعًا بالأزمات السياسية والاقتصادية المتعاقبة، وصولًا إلى مستويات تقارب 4.2 مليار دولار مع نهاية عام 2024، وهو أعلى رقم تسجله المالية الفلسطينية منذ نشوء السلطة .
تركيبة الدين بين الداخلي والخارجي
توضح البيانات أن الدين العام يتوزع بين دين داخلي من المصارف المحلية وسندات حكومية، ودين خارجي من مؤسسات مالية عربية ودولية. ويشكّل الدين الداخلي الحصة الأكبر خلال السنوات الأخيرة، مدفوعًا بقدرة السلطة على الحصول على تسهيلات من البنوك الفلسطينية، في مقابل تقلص نسبي للتمويل الخارجي.
فقد ارتفع الدين الداخلي من نحو 1.3 مليار دولار عام 2007 إلى أكثر من 2.8 مليار دولار عام 2024، في حين تراوح الدين الخارجي حول 1.3 مليار دولار، ما يشير إلى اعتماد متزايد على المصارف المحلية . هذا التوجه، وفق خبراء، يحمل مخاطر كبيرة على استقرار الجهاز المصرفي الفلسطيني، ويضعف قدرة البنوك على تمويل القطاع الخاص.
العجز المالي المزمن
لا تنفصل أزمة الدين عن واقع العجز المالي المستمر في الموازنة الفلسطينية. إذ بلغ متوسط العجز الجاري خلال الأعوام الأخيرة حوالي 1.2 مليار دولار سنويًا، وهو ما يعادل نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي .
وتُظهر البيانات أن العجز ليس ناتجًا فقط عن توسع النفقات الجارية كفاتورة الرواتب والتحويلات الاجتماعية، بل أيضًا بسبب القيود الإسرائيلية على حركة التجارة والمعابر، واحتجاز أموال المقاصة التي تمثل أكثر من 60% من الإيرادات العامة.
وقد أدى احتجاز إسرائيل لأكثر من 10 مليارات شيقل من أموال المقاصة خلال السنوات الأخيرة إلى أزمة سيولة خانقة، أجبرت الحكومة على انتهاج سياسة "الدفع الجزئي" لرواتب الموظفين، وزيادة الاقتراض من البنوك المحلية، ما عمّق حلقة الدين والعجز .
التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية
انعكست أزمة الدين والعجز على الحياة اليومية للفلسطينيين بعدة أشكال:
-
تأخير الرواتب: حيث لم يحصل الموظفون العموميون في الضفة وغزة على رواتبهم كاملة في معظم أشهر السنوات الأخيرة.
-
تقلص الإنفاق الاجتماعي: ما أثر على برامج دعم الأسر الفقيرة والخدمات الصحية والتعليمية.
-
ارتفاع البطالة والفقر: إذ تجاوزت نسبة البطالة 30% في الضفة، فيما وصلت إلى 80% في قطاع غزة نتيجة الحصار والحرب المستمرة.
-
تراجع الاستثمار الخاص: بسبب انشغال البنوك بتمويل الحكومة، وضعف ثقة المستثمرين في الاستقرار المالي .
ويحذر خبراء اقتصاديون من أن استمرار هذا المسار قد يقود إلى "اختناق مالي كامل" يعجز معه الجهاز الحكومي عن الاستمرار في تقديم خدماته الأساسية.
محاولات الإصلاح والمعالجات
أمام هذه التحديات، أطلقت الحكومة الفلسطينية مؤخرًا البرنامج الوطني للتنمية والتطوير، متضمنًا عشر مبادرات لإصلاح هيكلية الاقتصاد، إلى جانب برنامج إصلاح مالي يهدف إلى زيادة الإيرادات المحلية عبر تحسين الجباية الضريبية، والاتجاه نحو التحول الرقمي، وتقليص النفقات غير الضرورية .
كما تعمل الحكومة على تجنيد دعم مالي طارئ لمدة 6 شهور عبر مؤتمر المانحين المزمع عقده على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف توفير سيولة عاجلة للموازنة، وإعادة هيكلة الدين العام بضمانات دولية تمنع زيادته .
وتوازيًا، هناك جهود لتعزيز الاعتماد على المنتج الوطني، والتقليل من التبعية الاقتصادية لإسرائيل، من خلال قوانين جديدة للاستثمار، ومحاربة إغراق السوق بالبضائع الأجنبية، مع إلزامية شراء المنتج الوطني في العطاءات الحكومية.
تحديات مستمرة
رغم هذه الجهود، تبقى التحديات كبيرة، إذ إن أي إصلاح اقتصادي يظل مرهونًا بالعامل السياسي المتمثل في استمرار الاحتلال الإسرائيلي، واحتجازه للإيرادات، وقيوده المفروضة على الحركة والتجارة. كما أن الانقسام الداخلي الفلسطيني يضعف من قدرة المؤسسات على تنفيذ إصلاحات جذرية، ويُفقد الحكومة الغطاء السياسي والشعبي اللازم .
إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد الكبير على التمويل الخارجي يجعل الموازنة الفلسطينية رهينة للتقلبات السياسية الإقليمية والدولية، ولشروط المانحين التي قد لا تنسجم دائمًا مع الأولويات الوطنية.
تكشف أزمة الدين العام الفلسطيني عن مزيج معقد من قيود الاحتلال، ضعف الموارد الذاتية، سوء إدارة مالية في مراحل سابقة، وتراجع الدعم الخارجي. وبينما تحاول الحكومة الفلسطينية تبني برامج إصلاح مالي واقتصادي، فإن نجاحها يبقى مشروطًا بعوامل خارج سيطرتها، أبرزها إنهاء سياسات الاحتلال الاقتصادية، وضمان تدفق أموال المقاصة، والحصول على دعم دولي مستدام.
ومع بلوغ الدين العام أكثر من 4.2 مليار دولار، وتواصل العجز المالي، تبدو المالية الفلسطينية أمام مرحلة حرجة، تتطلب إصلاحات هيكلية جريئة، وشراكات دولية واسعة، وإرادة سياسية داخلية موحدة، لتفادي الانهيار وضمان صمود المؤسسات والخدمات العامة في وجه التحديات المتفاقمة.