الاحتلال الإسرائيلي يحرم مبتوري الأطراف في غزة من العلاج والأدوات المساعدة وسط تهديدات بالإخلاء القسري من مدينة غزة

مبتوري الأطراف في غزة.jpg

في قطاع غزة المحاصر، يعيش آلاف الجرحى ومبتوري الأطراف مأساة مركبة تفوق حدود الاحتمال. فبينما تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في قصف المنازل والبنى التحتية وإصدار أوامر إخلاء قسري تطال مدينة غزة بأكملها، يُحرم الناجون من أبسط حقوقهم في العلاج والرعاية الطبية، ويُتركون من دون كراسٍ متحركة أو أطراف صناعية أو عكازات. هذا الحرمان المتعمد، كما وصفه المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، يشكّل حكماً بالإعدام البطيء على آلاف المصابين، ويضاعف معاناتهم في ظل تهديدات بعملية عسكرية برية تجبر أكثر من مليون فلسطيني على النزوح، بينهم عشرات الآلاف من ذوي الإعاقة غير القادرين على الحركة أو الإخلاء الآمن.

أرقام مفزعة: واحدة من أكبر كوارث البتر في العالم

منذ اندلاع العدوان في أكتوبر 2023، شهد القطاع واحدة من أكبر موجات البتر في العالم منذ عقود. فقد خسر ما يقارب خمسة آلاف فلسطيني أطرافهم بسبب القصف المباشر والانهيار شبه الكامل للمنظومة الصحية. وأكد الأطباء أن معظم هذه الحالات كان يمكن إنقاذها لولا النقص الحاد في الأدوية والمعدات الطبية، وهو ما جعل البتر الخيار الوحيد لإنقاذ الأرواح. هكذا تحولت غزة إلى واحدة من أكثر بقاع العالم التي تضم أعداداً كبيرة من الأطفال مبتوري الأطراف، حيث يحتاج هؤلاء إلى عمليات ترميمية وأطراف صناعية غير متوفرة، فيما لم يُسمح إلا لعدد محدود بالسفر إلى الخارج لتلقي علاج غالباً ما كان جزئياً وغير كافٍ.

قصص من قلب المأساة

وراء هذه الأرقام قصص إنسانية تقشعر لها الأبدان. رجب، الطفل ذو الثمانية أعوام من حي الصبرة في غزة، كان مليئاً بالحياة، يعشق الدراجة الهوائية ويتميز في دراسته، قبل أن تغيّر الحرب مجرى حياته بالكامل. في ديسمبر 2024 وأثناء نزوح عائلته في مدرسة الفلاح، استهدفت غارة إسرائيلية المبنى مباشرة، فاستشهد أفراد من عائلته بينما سقط رجب تحت الأنقاض. أدت إصابته إلى بتر ساقه اليمنى وكسر في الجمجمة وإصابات متفرقة في جسده. منذ أن استيقظ من غيبوبته وهو يرفض رؤية ساقه المبتورة، يعيش في ألم دائم ويعاني من نوبات هلع وهشاشة عظام ناجمة عن سوء التغذية. يقول لوالدته إنه يتمنى الموت بدلاً من هذا الألم، فيما تحاول أمه التماسك أمام صرخاته وعجزها عن إعادة طفولته المسلوبة.

أما حمزة عبد نصر، البالغ من العمر 33 عاماً من مخيم جباليا، فقد تحولت حياته إلى مأساة متواصلة. أصيبت طفلته ريتال ذات الأعوام السبعة وبُترت يدها، وبعدها بأشهر أصيب هو نفسه خلال قصف أثناء نزوحه في رفح وفقد ساقيه. بعد فترة طويلة بين الغيبوبة والعلاج، خرج ليواجه واقعاً أشد قسوة مع غياب الأدوية وحرمانه من كرسي متحرك كهربائي. حصل على كرسي يدوي متواضع من مستشفى ميداني، لكنه لم يعد صالحاً للاستخدام وسط الطرقات المدمرة المليئة بالركام. يتنقل بصعوبة بمساعدة ابنه وصديقه ليصل إلى جلسات العلاج الطبيعي، ويعيش اليوم قلقاً دائماً من أوامر الإخلاء الإسرائيلية، إذ يخشى أن يُجبر على النزوح مجدداً بلا وسيلة للحركة، وهو ما يعتبره حكماً بالموت له ولعائلته التي لن تتركه وحيداً.

انهيار البنية التحتية الصحية

الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة في غزة تكشف حجم الكارثة. فقد تم تسجيل نحو 4800 إصابة بتر وإصابة دماغية أو في الحبل الشوكي منذ بداية العدوان. وتشير البيانات إلى أن حالات البتر بلغت 1830 إصابة بنسبة 63%، فيما سجلت إصابات الدماغ والحبل الشوكي 1059 حالة بنسبة 37%. الفئة الأكثر تضرراً كانت الشباب بين 18 و59 عاماً، يليهم الأطفال، بينما سجلت مدينة غزة أعلى نسبة من الإصابات تليها شمال القطاع. ومن بين 953 مريضاً حصلوا على تحويلة للعلاج خارج القطاع، لم يتمكن سوى 54 فقط من السفر، ما يعكس الحصار الصارم الذي يفرضه الاحتلال.

وتزداد المأساة مع تدمير الاحتلال للمراكز الصحية المتخصصة، مثل مستشفى الأمير حمد بن جاسم، ومستشفى الوفاء، ومستشفى الأمل، إضافة إلى أقسام العظام في مجمع الشفاء الطبي. كما يواجه مركز الأطراف الصناعية التابع لبلدية غزة خطر التوقف الكامل بسبب منع إدخال المواد الخام والأدوات الطبية، بحجة الاستخدام المزدوج، فضلاً عن أزمة الوقود وانقطاع الكهرباء. هذا الواقع جعل آلاف مبتوري الأطراف بلا أي دعم أو بدائل، فيما تضاعف الأعداد اليومية للمراجعين وسط عجز شامل يشمل الأطراف الصناعية والعكازات والكراسي المتحركة.

سياسة ممنهجة للحرمان

وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن الاحتلال حرم أكثر من 83% من الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة من الأدوات المساعدة على الحركة، بعدما أدرجها ضمن قائمة السلع مزدوجة الاستخدام. هذا الحرمان الممنهج دفع الكثيرين إلى الزحف لمسافات طويلة للهروب من القصف، ما تسبب في إصابات إضافية لهم، فضلاً عن فقدان أدواتهم أثناء النزوح أو تحت أنقاض منازلهم المدمرة.

الوضع لا يقتصر على المعاناة الجسدية، بل يمتد إلى آثار نفسية واجتماعية عميقة. آلاف الأطفال المبتورين يعيشون صدمات متكررة، يفقدون الثقة بأنفسهم، ويشعرون بالعجز والنقص أمام أقرانهم. الأمهات والآباء يجدون أنفسهم عاجزين عن حماية أبنائهم أو توفير احتياجاتهم، بينما يواجه المجتمع بأسره تحديات في رعاية جيل كامل من الأطفال والشباب الذين يحتاجون إلى إعادة تأهيل ودعم نفسي واجتماعي.

البعد القانوني: انتهاكات جسيمة ترقى إلى الإبادة الجماعية

من الناحية القانونية، يرى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن هذه الممارسات تندرج ضمن الأفعال المكوّنة لجريمة الإبادة الجماعية، كما نصت عليها المادة الثانية من اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة والمادة السادسة من نظام روما الأساسي، حيث يُلحق الاحتلال أذى جسدياً ونفسياً جسيماً بجماعة كاملة من المدنيين، ويُحرمهم من العلاج والرعاية في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف الرابعة التي تلزم قوة الاحتلال بضمان الرعاية الصحية للسكان المدنيين. كذلك، يمثل هذا السلوك خرقاً مباشراً لالتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي تكفل الحق في وسائل الحركة والعلاج والعيش بكرامة.

أمام هذا الواقع المأساوي، يدعو المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري لإلزام إسرائيل بوقف جريمة الإبادة الجماعية ضد المدنيين في غزة، وضمان إدخال الأدوات المساعدة والأدوية دون أي قيود. كما يطالب بفتح ممرات إنسانية آمنة وإتاحة السفر العاجل للمرضى ومبتوري الأطراف لتلقي العلاج في الخارج، باعتبار ذلك حقاً مكفولاً بالقانون الدولي. كذلك، يحث المركز المحكمة الجنائية الدولية على فتح تحقيق عاجل في هذه الانتهاكات، ويدعو الدول الأطراف في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة إلى ممارسة ضغط سياسي وقانوني جاد لضمان حماية حقوق ذوي الإعاقة في غزة وتمكينهم من العيش بكرامة كاملة.

هكذا يبقى مبتورو الأطراف وذوو الإعاقة في غزة ضحايا مركبين لآلة الحرب: قصف يفقدهم أطرافهم، وحصار يحرمهم من العلاج والأدوات المساعدة، وتهديد دائم بالإخلاء القسري الذي يتركهم أمام مواجهة الموت بلا وسيلة للنجاة. إنها مأساة تتجاوز الأرقام والإحصاءات، وتستدعي تحركاً دولياً عاجلاً ينقذ حياة آلاف الأبرياء، ويعيد لهم حقهم البديهي في الحياة والكرامة.

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة