رأيت جثتي على الشاشة

بقلم: عيسى قراقع

عيسى قراقع.jpg

بقلم عيسى قراقع

لم تكن غريبة الملامح، لم أُفزع  من سوادها، ولا من عظامها المكشوفة، ولا من الدم اليابس عليها كأنه توقيعٌ أخير من الحياة، رأيتها في غزة، في بيت لاهيا، في حي الزيتون، في جباليا، في حي التفاح، في خانيونس، في حي الصبرة، في رفح، على شاشة كانت ذات يوم نافذة على العالم، لكنها اليوم صارت مقبرة متحركة.

رأيت هيكلًا عظميًا لا يزال يحمل ملامح وجه، ملامحي، كأن القصف لم يكتفِ بتفجير البيت، بل فكّك الزمان، فأعادني إلى هناك، إلى اللحظة الأخيرة، إلى البرهة التي ينفصل فيها الوعي عن الجسد، ويبقى الإدراك حيًا لبرهة، يتأمل موته في الصدى.

كنت أنا الجثة، وكان العالم واقفًا، لا يتحرك، لا يصرخ، لا يبكي، عاجز عن وقف نزيف الدم، وحتى عاجز عن دفني، وشعرت أن بيني وبين جثتي حاجزا، لا جسرا ولا اسما ولا محتوى، هذه الصورة لي، ولكني الان أقتل مرتين: الجسد اولا، ثم الارادة، كلمات مفرغة من الروح،تلطخ بها نشرات الأخبار المشهد، وهكذا تتحول المذابح إلى إحداث محايدة، وتمنح الإبادة قناعا قانونيا واخلاقيا، تعرض جثتي كما تعرض السلع، ولا احد يسال عن القتلة، الكل يراني بحواس جامدة.

المجتمع الدولي بفلسفاته المثيرة، والذي يؤكد دائما على قدسية الحياة، يتفرج على موتي، كأنني فيلم وثائقي عن "مأساة أخرى" تضاف إلى أرشيف المآسي، والصمت هو الجريمة الكبرى في وجه الموت العلني، وفي أحيان كثيرة، كان الصمت أشرس من الرصاصة.

لكن المأساة ليست أنا وحدي:
البيت المهدوم هو أنا، العائلة المقتولة، الأطفال، الجدّة، الصباحات التي كنا نُحضّر فيها الشاي ونختلف على نوع الخبز، كلها أنا، الشارع، الزاوية، ظلّ النخلة على الحائط، رائحة الطابون، ضحكات الجيران، الحارة، مواعيدي مع الحبيبة، نشيد المدرسة، والجري وراء الفراشات الجميلة، كل هذا صار جثة.
الذاكرة جثة.
الثقافة جثة.
الطفولة جثة
والمأساة الكبرى أن الجثة ليست في غزة فقط، أنها تعرض على كل فضائيات العالم، أيقونة إعلامية تبث وتنسى، جثة أمام العين على شاشة ملونة، وفراغا في العاطفة. 

لقد رأيت جثتي، نعم، لكن ليس لأنني ميت، بل لأن الإدراك نفسه مات،  نحيا في زمنٍ تُقصف فيه الحقيقة، وتُهدم فيه الأخلاق كما تُهدم البيوت، وتُنسف فيه العدالة كما تُنسف العائلات، صار العالم كله شاشة، وصارت الشاشة قبرًا، نعبر فوقه بأصابعنا، فلا نشعر، مات الشعور، وهذا أقسى من موت الجسد.

كم من الجثث تُعرض علينا كل يوم؟ وكم مرة نبكي فعلًا؟ وكم مرة نشعر بأن الجثة المعروضة هي نحن، هي ما تبقّى منّا؟ الجميع يتسمر على الشاشة، وينتظر في ساحة الخوف.

لم تعد الحرب فقط قتلًا وسفك دماء، بل صارت محوًا شاملًا للمعنى، دفنًا للحكاية، إعدامًا للوعي،حتى تكاد غزة تصير دليلا سياحيا للجثث البشرية إلى السماء، القنابل لا تقتل الجسد فقط، بل تقتل القدرة على البكاء، تجعلنا نعتاد، نصمت، نشاهد... ونتابع، لقد حولت الإبادة الإنسان إلى معدن بارد،واطفات فيه حرارة الرحمة.

رأيتني وأنا أُهرس تحت الجرافة، لا جسدي فقط،  كرامتي، وتاريخي، وأحلامي الصغيرة، الماضي والحاضر والأفكار، جثتي المشىردة في غزة تتقطع الف مرة: هناك في مصائد المساعدات طحينا ورصاصا، وهناك حيث لا بحر ولا يابسة،ولا معبرا للنجاة، وهناك تحت الطمم والانقاض وجنازير الدبابات، وهناك في السجن وتحت الارض او في ثلاجة باردة.

رايتها على الشاشة تتعذب، تصلب في  ساحة كنيسة القديس هيلاريون، وتشبح على ماذنة الجامع العمري، وتترك طعاما للوحوش المفترسة، وهناك تسحل في الشوارع وتتعفن على الأرصفة، رايت جثتي المتعددة أكثر من جثة، تظهر في كل نشرة أخبار، اعرفها تماما، هي في جنين، و طولكرم ورام الله والخليل ونابلس،هي الناسخة والمنسوخة والملاحقة منذ وعد بلفور حتى آخر حاجز في القدس المحاصرة، جثتي أيقونة في الأمم المتحدة،  تراها تنهض على المنابر تبحث عمن يعترف بها كضحبة، وتراها تطمس في مسافات المتكلمين عن الحرب والسلام  معصوبة العينين خائفة

رأيت الغبار يلفني لا كتراب بل كنسيج لِكفنٍ ثقافي، تم فيه خنق القصيدة، والصورة، والفكرة، والدهشة، والنكبة، والخيمة،  وجروحنا القديمة، جثتي دخلت اللوحة والنشيدة، صار الموت أدبا وفنا وأفلاما تحصد جوائز عالمية ،جثتي الغزية صارت فرجة وابداعا ومختبرا وتدريبا وتنبؤات كونية.

اكل هذا وانا ميت ؟

رأيتني احرق بالقنابل، اتفسخ، هذا انا، هذه يدي، هذا راسي المعلق على الجدار، هذه قطعة من ملابسي، وكانت الكاميرا لا تزيح نظرها، وكانت الشاشة تبث، ولكن لا احد يبالي، كأننا في عصر لم يعد فيه الدم يثير الغثيان، جثتي تختزل في شريط اخباري عابر،واكثر من ذلك،  تاريخ أشلاء بشر يتموجون في الغبار، لحظة تحول للانقراض الانساني، وانحطاط الأخلاق الرفيعة.

رأيتني عاريا معذبا مغتصبا مقيدا في زنزانة، انا في الجحيم،  لاحساب لا مساءلة ولا محكمة، كيس اسود ينتظرني، اصوات وحوش تعلن اني في يوم القيامة.
كيف صارت جثتي مجرد صورة مروعة تستهلك وتمحى؟ كانت ممدودة على الارض،تغطيها الشظايا والغبار، هيكلاً عظميا تفتت تحت قصف الطائرات، يا الهي، هذا انا، لا احد تحرك، لا احد اعترف أن هذه الجثة ليست مجهولة الهوية، هي انا، هي هو، هي انتم.

نحن لا نعيش في عالم الموت. انما في عالم ما بعد الموت.
ما بعد الحزن.
ما بعد الإدراك.
ما بعد الإنسان.
الجثة التي رأيتها على الشاشة كانت أنا، وكانت العالم، لكن الجريمة الكبرى ليست أنني متُّ، بل أنكم رأيتم، ولم تشعروا بشيء، وكأنه في زمن اللاواقع،الشاشة لا تنقل الواقع، بل تصنع بديلا عنه، ونحن نعيش هذا البديل، حيث نباد ولا ندري،نشاهد موتنا دون أن نشارك فيه، وغزة اليوم ليست ما يحدث،بل ما يسمح لنا أن نراه، وما يراد لنا أن ننساه بعد لحظة

رايت جثتي على الشاشة، من يروي ومن يصدق ومن يصغي؟ حتى قدرتي على التعبير عن كارثتي صارت معجزة، الإبادة لم تقتلني فقط، بل قتلت السردية الانسانية، وحولتني من كائن بشري الى رقم يتكرر.

يا الهي، اكل هذا الموت لي؟
 المدافع والصواريخ والبراميل المتفجرة، يتطاير جسدي كما تتطاير الابراج المدمرة، يتوحد الفاشيون والنازيون والظلاميون والمازومون والشاذون من أجل ابادتي، لم يعد من بيت لي سوى جسدي، جسدي غطائي وكفني،  ولست أكثر من مدينة فقيرة، ولست أكثر من مخلوق من ملح وتراب، ولست أكثر من فلسطيني يحمل ذاكرة لا تنام.

تحولت غزة إلى معرض للعصر الحجري، لم يكن هنا احدا،ارض جديدة، حضارة من جثث وفحم، وانا أراني على الشاشة، ظل بشبهني، ما هذه الحرب التي غيرت الجغرافيا والزمن؟  لا النيل يجري بقربي، ولا الخليج وبلاد الشام، وقد أصاب اللغة العربية التعب، يكاد كل عربي أن يكون قبرا يسعى، لا ابن خلدون معي ولا المتنبي، لا اثر، انا وحدي ،الكل مات، الكل بالغبار الأمريكي اختنق، لا ادري الجميع على الشاشة، الحرب غيرت وظيفة االمشاهدة، والحرب غيرت وظيفة العين نفسها، والحرب غيرت النظر

رايت جثتي على الشاشة، من يرسم لها جنازة ؟  من يقول هذا انا؟ انا جثة، انا جريمة، الكاميرا حطمت، والصحفي الذي التقط صورتي قتل بغارة جوية،، هناك من اسكتني، واسكت صوتا رآني قبل قليل، جثتي تسالني: كيف انا هنا الميت، وانت الحي هناك؟  انا في غزة وانت في رام الله، من مات اذا؟ وكيف خسرنا ارواحنا والامكنة؟ يا انا: اراك تحيا خارجي وتجلس على الشاشة، تشاهدني في مراياك المحطمة، روحك من حطامي، وخلاصك من خلاصي،يداك يداي، وقلبي قلبك،فلا تذهب بعيدا في انهياري.

 انت انا، لماذا تاخرت؟ كنت احتاجك عندما انفجر كل شيء، ولم اعد افهم كيف يكون في الجسم الواحد نصفين: نصف يذبح ويقاوم، والنصف الآخر يغرق في الصمت والبلادة؟ 

قلت : كنت اركض، ابحث عن مخرج، عن نجاة، ظننت أنك ستكونين هناك معي، قالت: كنت معك في كل خطوة، لكنك تركتني خلفك، الم تكن تعرف أنني انت؟ قلت: كنت اظن أنني من لحم وعظم، وروحي حرة تستطيع أن تطير، واقتربت من الشاشة وصرخت: يجب أن نلتقي ونتوحد وننهي انقسامنا، ردت جثتي وقالت: سنلتقي هناك، فوق، حيث لا  طائرات ولا صفارات انذار  ولا مساومة، نلتقي في الذاكرة، فهي الوطن الأخير الذي لا يقصف.
رايت جثتي، لكنني ارفض أن انسى، وارفض أن تكون الجثة هي النهاية.
.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت