حمزة طفل مولود من فم القنبلة

بقلم: عيسى قراقع

عيسى قراقع.jpg

بقلم عيسى قراقع / في الرابع من ايلول2025 ولد الطفل حمزة عمر عبد السلام الرباعي خلال قصف اسرائيلي، استهدف خيمة عائلته قرب مستشفى الشفاء بمدينة غزة، استشهد والده وإخوته ،واصيبت والدته الحامل به بإصابات خطيرة، واستطاع الأطباء إنقاذ الجنين الذي سمي حمزة، ولكن والدته فارقث الحياة، ليكون حمزة الناجي الوحيد من عائلته في هذه المجزرة.

يولد "حمزة" ولا شيء يشبه الميلاد، لا صرخة الحياة الأولى، لا صدر أمٍ يحتضنه، لا أب يقرأ على جبينه آية النجاة. حمزة لا يُستقبل بزغرودة، بل بانفجار، لا يحمل إليه الطبيب بشرى، بل يحمل جسده النحيل بعيدًا عن حطام سريرٍ تحوّل إلى كفن.

وُلد حمزة في غزة. ولكن هل في غزة يولد الناس؟ أم يُستخرجون من بين أنقاض البيوت كأنهم رمادٌ نجا من الاحتراق؟ حمزة ليس اسمًا عاديًا في دفتر الولادات. هو شهادة حيّة على آخر معاني الإنهاك الإنساني: طفل يولد وتدفن أمه في اللحظة نفسها. أبوه؟ قُتل. إخوته؟ قُتلوا. لا جدّة، لا خالة، لا ملجأ. ولد حمزة ليكون شاهداً، لا مولوداً فقط.

لا يُفترض بحمزة أن يكون هنا. فالاحتمالات كلها كانت ضدّه:
أم جريحة تنزف، لا تصل إلى مستشفى، بل إلى مقبرة.
حياة بلا موعد تشبه المعجزة،بلا سرير، بلا بكاء، بلا حبل سري، بلا دواء، بل اسلاك ممزقة، صرخة في الفراغ، وأحلام تولد ميتة، لا حليب، ولا هواء، لا اغنية، لا مدرسة، ولا ماء في القصيدة.
 عيد ميلاد سعيد ياحمزة، هذا ما كتبه المجرم نتنياهو على القذيفة التي فجرت البيت ونسفت الخيمة.
ولد حمزة بين قنبلتين:  الاولى قتلت امه، والثانية قذفته إلى حياة ناقصة، أنها الإبادة المستمرة التي لا تفرق بين رحم وراجمة، الحاخاميون في اسرائيل اباحوا  قتل الأطفال  الرضع قصفا وجوعا، وبلا رحمة.
عشرون ألف طفل وأكثر قتلوا في غزة، وما أكثر الملائكة في أروقة هيئات حقوق الانسان،ولكن لانرى في أيدي تلك الملائكة أية وردة، وما يزيد عن اثني عشرة ألفا قتلوا من النساء، واصبحت غزة أكثر بقعة في العالم تفيض بالارامل، فالحرب على المرأة الغزية،هي الخوف من الخلق، ومن الأنوثة التي لا تقهر، رغم الإبادة تستمر في الولادة.
 من قال إن الولادة حياة؟ حمزة هنا لا ليعيش طفولته، بل ليُحرم منها، سيكبر ولا صورة لوالدته ترضعه. لا يعرف ملمس يد أبيه. لا يسمع ضحكة إخوته. سيبحث عن وجهه في مرآة مكسورة، وعن عائلته في صور محذوفة من ذاكرة الهاتف المحطّم تحت الحديد والاسمنت.
حمزة هو سؤال فلسفي عن معنى الحياة وسط الإبادة، هل الحياة حدث بيولوجي فقط؟ أم أنها تبدأ عندما يكون هناك حضن، اسم، بيت، شجرة، مستقبل؟ حمزة يُولد وسط انعدام العلاج، وانهيار النظام الصحي، وجوع الحوامل، وخوف الأمهات، وانعدام الدواء، وكثافة الموت.
ومع ذلك، هو حي:
حيٌّ لأنه لا يزال يتنفس  لكنه يتنفس وسط الخراب والدم، حيٌّ لأنه لم يُقصف بعد  لكنه مقصوف باليُتم، حي بلا اوراق، لكن هويته محفورة في العدم.
المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة قال: ان اكثر من 55 ألف امرأة في غزة يواجهن تحديات الحمل والولادة وسط ظروف كارثية وخطيرة، وان مجموع الاطفال الأيتام بلا والدين أو أحدهما وصل إلى أكثر من 56 الف يتيم.
اطفال ولدوا تحت الانقاض، رضعوا الرعب والدخان، لقد جفت أثداء الامهات، ولدوا وفي داخلهم اصوات انفجارات، وشهقات جدران.
حمزة ليس مجرد طفل فلسطيني. هو السؤال الكامل عن العدالة، عن العار، عن العجز. هو سؤال في وجه العالم: لماذا يولد حمزة بلا أم، بلا وطن، بلا غد؟ ولماذا تستمر الحياة، كأن لا شيء حدث؟
في زمن الحرب، تصبح الولادة مأساة إضافية. يصبح جسد المرأة الحامل ساحة صراع، ويصبح الرحم آخر ملاذ آمن  قبل أن يُقصف هو الآخر. والدماء لا تعني ولادةً فقط، بل فاجعة، فالنساء مستهدفات، لأنهن اعدن تعريف اجسادهن، لا كمساحات للالم، بل كجبهات مقاومة.
حمزة وُلد ليروي لنا ما لا يُروى: عن أمه التي قاومت حتى النفس الأخير، ليخرج محروما من الأمومة، عن والده الذي حُرم من ضمّه، عن وطنٍ تُولد فيه الحياة من رحم الموت، وتُزهق فيه الطفولة قبل أن تنمو، عن مفردات ليس فيها الا اسماء الصواريخ وانواع الاسلحة، عن أشكال الموت: الصاخبة والمكتومة.
 لقد نجا حمزة  وخرج من فم القنبلة، في حين استشهد أكثر من450 رضيعا، ولدوا في الحرب ، وفي حين مسحت أكثر من ألفين أسرة من السجل المدني خلال حرب الابادة، طفل يقتل في غزة، وطفولة العالم تنكمش خائفة، لكن حمزة يولد من بين الحطام والصمت، من زوايا الذاكرة.
حمزة ينام الان في حضن الغبار والخوف، لا يدري ان كان في هذا الشتاء مطرا يكفي حقول الصيف، ولكن اثبت التشريح الاممي لجسد غزة، إن هناك طفلا اسمه حمزة، يمسك بيده اليسرى وجه القمر، وبيده اليمنى وجه الرعد، يقولون إن القنابل تقتل، لكنهم لم يقولوا أنها قد تلد الحرية، حمزة طائر وحيد حرك أشجار الحقيقة، وملأ فضاءها بالاجنحة.
الطفل حمزة المولود من فم القنبلة ماذا يحلم الان؟ ربما حلما لا يشبه الغياب، ونوما لا ينتهي بانفجار، يحلم أن يكون طفلا فقط، لا رمزا، لاشهيدا، لا رقما في نشرة الاخبار، أن يكون للحلم مكان.
يا حمزة:
لو سألوك يوما:
من رباك؟
قل لهم الحرب
لو سألوك:
من علمك الكلام؟
قل لهم الصمت
ولو سألوك:
إلى اين؟
قل لهم:
إلى أن يجد العالم ضميره.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت