تقرير حرب الابادة الجماعية والقيود المشددة واستمرار الحصار تشلّ الإنتاج الزراعي في غزة

الاراضي الزراعية في غزة.jpg

في الصباح الذي كان يُفترض فيه أن يخرج المزارعون لقطف الزيتون، مرّت الطائرات المسيّرة فوق خطوط الريّ اليابسة. على امتداد الشريط الزراعي الشرقي والشمالي لقطاع غزة، تبدو الحقول اليوم أشبه بخرائط فجوات: بقعٌ محروقة، دفيئات مهدّمة، وآبار رُدمت حفرها بالإسمنت والركام. بعد عامين من المواسم المقطوعة وحصار ممتد، تقترب قدرة القطاع الزراعي في غزة على إنتاج الغذاء من نقطة اللاعودة، وفق تقييمات أممية ومعلومات ميدانية حصلت عليها وكالات إنسانية وحقوقية. 

تظهر أحدث صور الاستشعار عن بُعد وتقييمات الأمم المتحدة أن أكثر من 80% من الأراضي الزراعية في قطاع غزة أصيبت بأضرار بدرجات مختلفة منذ اندلاع الحرب الأخيرة، فيما بات نحو 77.8% من الرقعة الزراعية غير متاحة للزراعة فعليًا. وفي مؤشر إضافي على حجم التدهور، تقلّصت المساحات المزروعة بالخضراوات من نحو 93 ألف دونم قبل الحرب إلى قرابة 4 آلاف دونم فقط. هذه الأرقام، بحسب خبراء زراعيين، تعني عمليًا انهيار العرض المحلي من السلع الطازجة وارتفاع الأسعار إلى مستويات يصعب على الأسر المنهكة تحمّلها. 

بنية تحتية معطّلة

لم تقتصر الخسائر على الحقول، بل طاولت البنية التحتية التي تُبقي الزراعة حيّة: 82.8% من الآبار الزراعية تضررت، وأكثر من 70% من الدفيئات البلاستيكية (البيوت الزراعية) خرجت من الخدمة. ومع كل بئر تُقفل، تتراجع القدرة على ريّ المحاصيل وتربية المواشي، وتتسع فجوة الأمن الغذائي التي لطالما عالجتها العائلات عبر الزراعة المنزلية أو الموسمية. 

وبحسب الخرائط المكانية، تفاوتت مستويات الأضرار بين المحافظات. سجّلت خان يونس أعلى نسبة تضرر في الأراضي الزراعية (بنحو 55%)، بينما بلغت نسبة الضرر في شمال غزة نحو 68%. وفي دير البلح، ارتفعت نسب تدمير البساتين إلى قرابة 49%، في حين قفزت نسبة الأراضي المتضررة إلى نحو 61% داخل محافظة غزة، وإلى 48% في محافظة رفح. هذه الفوارق الجغرافية تعقّد أي خطة تعافٍ موحّدة، وتفرض تدخلات مصمّمة بحسب خصوصية كل منطقة ومصدر عيشها الزراعي قبل الحرب.

قطاع الصيد والتغذية

الضرر ممتد إلى البحر أيضًا. ففي قطاع الصيد—المكوّن الثالث للمنظومة الغذائية المحلية إلى جانب الزراعة وتربية الدواجن—تقدّر منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن نحو 72% من ممتلكات الصيد والبنية التحتية البحرية تضررت خلال أشهر القتال الأولى، بكلفة إجمالية تقارب 84 مليون دولار. ضرب هذا الانهيار مصدر رزق آلاف الصيادين، وأغلق منفذًا كان يزوّد السوق المحلي بالبروتين السمكي عندما تتراجع وفرة المحاصيل. 

قبل الحرب، كانت الزراعة تمثّل قرابة 10% من الاقتصاد المحلي في غزة، وكان أكثر من 560 ألف شخص يعتمدون عليها كليًا أو جزئيًا—من أصحاب الحيازات الصغيرة وعمال المواسم إلى أصحاب سلاسل التبريد والنقل والتغليف. اليوم، خسر معظم هؤلاء أعمالهم أو غادروها قسرًا. ويُجمع مهندسون زراعيون محليون على أن تدمير الآبار بنسبة تقارب 90% والحقول المكشوفة بنحو 70% أوقف عجلة الإنتاج ودفع الأسر للاحتماء بمساعدات غذائية متقطعة لا تدخل دائمًا بوتيرة كافية.

يُرجع مزارعون ومسؤولو جمعيات تعاونية هذا الانهيار إلى مسارين متداخلين: القصف واسع النطاق، وقيود مستمرة على إدخال المدخلات الزراعية تحت ذريعة “الاستخدام المزدوج”. فحتى مع هدوء مؤقت في القتال، بقيت البذور والأسمدة ومواد الصيانة والمضخات وأنابيب الري خارج متناول السوق المحلي، ما عطّل دورات التجديد الزراعي ومنع إصلاح الشبكات. ويقول مزارعون إن محاولات استصلاح ما تبقّى من حيازاتهم تصطدم بنقص المواد الأساسية وارتفاع أسعار المياه المنقولة بالصهاريج.

«المنطقة العازلة» ومنع الوصول إلى الحيازات

إلى جانب ذلك، توسّعت “المنطقة العازلة” على امتداد الحدود الشرقية والشمالية، وتحولت فعليًا إلى نطاق عسكري مغلق يبتلع آلاف الدونمات كانت قبل الحرب سلة خضراوات وفاكهة—من الفراولة في بيت لاهيا إلى الحمضيات والزيتون في بيت حانون. كثير من المزارعين لا يستطيعون اليوم الوصول إلى أراضيهم، ومن يعود منهم يجد شبكة الري مجروفة أو البساتين مقطوعة وخالية من المياه، ما يجعل استعادة المحاصيل أشبه ببدءٍ من الصفر.

تصريف مياه الصرف وتلوّث التربة والمياه الجوفية

تجاوز الأزمة حدود “العِزق والسقي” إلى الصحة العامة والبيئة. مع تضرر شبكات الصرف ومحطات المعالجة، يُصرّف يوميًا ما لا يقل عن 100 ألف متر مكعب من مياه الصرف غير المعالجة في البحر أو في بيئات قريبة من المناطق الزراعية، ما يعمّق تلوث التربة والمياه الجوفية ويهدد سلامة الغذاء المحلي لعقود. ويضيف مهندسون أن تكرار القصف باستخدام ذخائر تحمل معادن ثقيلة يخلّف ملوثات يصعب تفكيكها طبيعيًا، ويكشف طبقة التربة العضوية للانجراف، فتفقد الحقول خصوبتها حتى بعد إزالة الركام.

وعلى مستوى سلاسل الإمداد، انقطعت الصادرات الزراعية التي كانت تشكّل مصدر سيولة للمزارع—مثل فراولة الشمال التي كانت تُصدَّر للأسواق الخارجية—وتوقفت الحركة التجارية التي كانت تُوازن العرض والطلب داخل القطاع. ومع إغلاق المعابر أو فتحها المتقطع، تضيق نافذة إدخال الأعلاف ولوازم تربية الدواجن والماشية، فتتراجع القدرة على تعويض نقص البروتين من اللحوم والبيض. ينعكس ذلك مباشرةً على سلال الأسر الغذائية، وعلى معدلات سوء التغذية، خصوصًا لدى الأطفال والنساء الحوامل. 

النتيجة على الأرض مزيج من الفقر المدقع والبطالة القسرية والنزوح الداخلي. كثير من أصحاب الحيازات الصغيرة تحوّلوا إلى باعة متجولين يقتاتون من السلع المعلبة بعد أن فقدوا أدواتهم وشبكات الري، فيما يعيش عمال المواسم من دون دخل ثابت. ويقدّر ناشطون محليون أن استعادة 10 دونمات من أرضٍ مجروفة قد تستغرق موسمًا كاملًا—وأحيانًا أكثر—لإعادة تمليح التربة وتسويتها وإصلاح شبكة المياه. ومع توسع المنطقة المقيدة، حتى من يستطيع الترميم لن يصل دائمًا إلى أرضه ليتابع العمل. 

سحق موسم الزيتون في غزة 

بالنسبة لقطاع الزيتون، عماد الهوية الزراعية في غزة، أُجهض موسمان متتاليان جراء الاستهداف المباشر للحقول وقيود الحركة. ويفسّر مربّو النحل أن توقف مواسم الإزهار وتقطّع الغطاء النباتي أثّرا على سلوك النحل وكميات العسل المنتجة، ما يضيف خسائر قطاعية في سلع موسمية كانت تسد جزءًا من احتياجات الأسر وتوفّر دخلاً تكميليًا. 

تتباين تقديرات زمن التعافي، لكن معظم الخبراء يتحدثون عن مسارين لا بديل عنهما: الاستجابة السريعة لإنعاش الإنتاج الأساس—بذور سريعة النمو، أنظمة ري بالتنقيط صغيرة، أعلاف ومضادات حيوية بيطرية—ومسار طويل لإعادة بناء البنية التحتية، من الآبار إلى الدفيئات والطرق الزراعية. هذا التعافي يفترض أيضًا معالجة التلوث، عبر فحوص تربة واسعة النطاق وخطط ترميم بيئي. من دون ذلك، ستظل الحقول تنتج أقلّ مما ينبغي حتى لو عادت المياه والبذور. 

على المستوى المؤسسي، يطالب مهندسون زراعيون وجمعيات محلية بتأمين “ممرات خضراء” لإدخال المدخلات ذات الأولوية، مع قوائم تحصين شفافة ضد مخاطر “الاستخدام المزدوج”، وإعادة فتح تدريجي للوصول الآمن إلى الحيازات ضمن ترتيبات مراقبة، كي لا يتحول “الفراغ الزراعي” في الشريط الحدودي إلى واقع دائم. يترافق ذلك مع الحاجة إلى تمويل مرن يُسمح بتوجيهه حسب موسمية المحاصيل لا وفق جداول صرف بيروقراطية، وإلى تعويضات عاجلة لصغار المزارعين ربطًا بمستنداتهم وحجم الضرر المثبت. 

في المقابل، تقول إسرائيل إن عملياتها العسكرية تستهدف بنى تحتية للمسلحين ومواقع إطلاق النار وممرات الأنفاق القريبة من الحدود، وإنها تتخذ تدابير لتقليل الأضرار المدنية. غير أن تقارير ميدانية متواترة من منظمات أممية ومحلية ترسم صورة مختلفة لوقع تلك العمليات على القطاع الزراعي، مع تكرار استهداف منشآت وآبار ودفيئات بعيدة عن خطوط المواجهة المباشرة، وتوسّع القيود التي تحول دون وصول المزارعين إلى الحقول حتى في فترات الهدوء النسبي. 

شهادات من الميدان

على الأرض، تتجلّى الأزمة في قصص فردية تُلخّص الكلّ. في بيت لاهيا، يخبر مزارعون كانوا يزرعون الفراولة للتصدير أنهم مُنعوا من الوصول إلى أراضيهم بعد أن اندرجت ضمن المنطقة العازلة. وفي بيت حانون، يشير أصحاب بساتين الحمضيات والزيتون إلى أن أشجارهم تُركت بلا ريّ لأشهر فتلفت جذورها. هذه الشهادات تتكرر بصيغ مختلفة في الشجاعية وشرق خان يونس ودير البلح: التجريف، تدمير الشبكات، وخطر الاستهداف المباشر حول الحقول المحاذية للسياج الأمني.تُفاقم أزمة المياه المشهد. فحتى حين تتوفر شحنات وقود محدودة لتشغيل الآبار أو محطات التحلية الصغيرة، تبقى نوعية المياه إشكالية في مناطق كثيرة نتيجة اختلاطها بمياه صرف أو ارتفاع نسبة الملوحة. ومع تواصل تصريف آلاف الأمتار المكعبة من مياه الصرف إلى البحر، تتراكم المخاطر الصحية والبيئية وتستدعي تدخلات معقّدة لوقف مصادر التلوث ومعالجة التربة. من دون حلّ لمعضلة المياه، ستظل محاولات إعادة الزراعة تترنح فوق تربة عطشى. 

ما المطلوب للتعافي؟

ومع أن العودة السريعة إلى مستويات الإنتاج قبل الحرب تبدو بعيدة، فإن نوافذ التعافي الجزئي موجودة، بحسب خبراء. يمكن، على سبيل المثال، إعادة تشغيل وحدات صغيرة لإنتاج الشتلات داخل مناطق أقل تضررًا، وتوسيع الزراعة المنزلية في أحواض مرتفعة لا تتطلب مياهًا كثيرة، وإدخال أصناف سريعة الدورة تُحدّ من فجوة الخضار الأساسية في السوق المحلي—كالملفوف والخس وبعض البقوليات—بالاعتماد على شبكات ريّ بالتنقيط منخفضة الضغط. غير أن نجاح هذه المقاربات يتوقف على وصول آمن ومنتظم للمدخلات، وعلى ضمان أن من يزرع اليوم سيحصد غدًا دون أن يُفاجأ بجرافة أو قصف جديد. 

ورغم كل شيء، يبقى للموسم معنى في غزة. يحرص من بقي من المزارعين على تقليم ما تبقّى من الأشجار، يجرّبون بذورًا بديلة في مساحات صغرى، ويعيدون مدّ خراطيم ماء بالية على أمل أن تعود الحياة إلى التربة. لكن الخبرة الميدانية تُظهر أن الصمود وحده لا يكفي. ثمة حاجة إلى إطار تمويلي وسياسي وأمني يسمح بتحويل الجهد الفردي إلى تعافٍ منظّم: إزالة مخلفات الحرب من الحقول، تأهيل الآبار، صيانة الطرق الزراعية، وإعادة ربط المنتجين الصغار بأسواق الاستهلاك، داخل القطاع وخارجه.

يواجه قطاع غزة معادلة قاسية: خسائر واسعة في الرقعة الزراعية والبنية التحتية، قيود خانقة على المدخلات، ضغط بيئي ومائي متزايد، وانقطاع شبه تام لسلاسل القيمة. وبينما تتجه العائلات أكثر فأكثر إلى المساعدات، تبقى قدرة الأرض على إطعام من عليها رهينة قرارين متلازمين: تمكين المزارع من الوصول والزرع، وتمكين المدخلات من الدخول في الوقت المناسب. من دون ذلك، ستظل الحقول صامتة، والمواسم محروقة، والموائد فارغة بما يكفي ليدرك الجميع أن الزراعة في غزة ليست قطاعًا اقتصاديًا فحسب، بل شرطًا للبقاء. 

المصدر: خاص وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة