فرادة الحكاية هنا ليست في تفاصيلها فقط، بل في قدرتها على تلخيص شعور عام: الانقسام بين ماضٍ دافئ وحاضرٍ قاسٍ، وبين بيتٍ كان “بيت العائلة” وركامٍ صار شاهداً على الغياب.
مدخل: وجع يُرى ويُشمّ
في شهادة إنسانية تختصر وجع الفلسطينيين المُهجرين قسرًا، تقول إحدى الناجيات:
“روحي مقسومة كَرغيف خبزٍ أصابه العفن؛ نصفها عند رائحة أمي، والنصف الآخر في خيمة أختي، والربعان الأخيران مبعثران حيث بيت أهلي الذي أصبح كومة حجارة. لم أستطع أن أتجاوز ما حدث؛ عقلي يقف عاجزًا أمام البيت المقصوف، يحاول أن يتجاهل ما يرى. بيت أبي… بيت العائلة… بيت اللَّمّة حيث رائحة الخبز والسمك، حيث أخي وذكرياتنا معًا. فقدنا كل شيء، حتى حقّ العودة لديارنا.”
هذه الكلمات، وإن بدت شخصية للغاية، تحمل في طيّاتها سردية جماعية عن تشظّي الروح أمام مشهد الدمار، وعن محاولة الذاكرة النجاة عندما تعجز اللغة.
ذاكرة البيت: مكان يتّسع للعائلة ورائحة الخبز
كان “بيت العائلة” أكثر من جدران وسقف. في ذلك المكان، تتراكم تفاصيل الحياة اليومية: خبزٌ يعلو وجهه البخار، سمكٌ مشوي تلتف حوله الأحاديث، ضحكات أخٍ تُكمّل الجلسة، وذكريات تُبنى بالتدريج على مائدة واحدة. البيت هنا ليس عنوانًا بريديًا؛ هو تعريفٌ للذات، وخريطة للعلاقات، ومختبر للحبّ والحنين.
مشهد الركام: امتحان النظر والعقل
عند لحظة الوقوف أمام الركام، تُصاب الحواس بما يشبه الصمم المؤقت. تصف الساردة ذلك بقولها إن العقل يحاول تجاهل ما يراه. هذا “الإنكار” ليس ضعفًا، بل آلية دفاعية أمام حدثٍ يتجاوز العادي؛ فالبصر يرى أحجارًا مبعثرة، لكن الباطن يرى مقاعد السهرة ومواضع الخطوات الأولى ومكان المطبخ الذي كانت تنبعث منه رائحة الخبز.
حياة مؤقتة: بين خيمة وقَطعة من الأمس
“نصف الروح” عند رائحة الأم، و“نصفها الآخر” في خيمة الأخت؛ توصيف دقيق لزمنٍ معلّق. الخيمة ليست سكنًا بقدر ما هي اعترافٌ بأن اليوم مؤقتٌ وغدًا مؤجل. وعلى الضفة الأخرى من الذاكرة، تبقى الأم—ولو غابت—مرجع الرائحة الأولى، وعلامة البيت الأعمق. بهذه الثنائية تعيش الساردة: قدمٌ في الحاضر الناقص، وأخرى في الماضي المكتمل.
أثر الصدمة الطويل: زمن بلا قياس
تقول الشاهدة إنها “لم تستطع أن تتجاوز ما حدث”. عبارة موجزة، لكنها تُحيل إلى زمن نفسيّ معطل. فالصدمة هنا ليست لحظةً واحدة بل امتدادٌ يغيّر الإيقاع اليومي: نومٌ مُقطّع، ذاكرةٌ تُدقق في التفاصيل الصغيرة لتنجو، وحواسّ تستدعي روائح وصورًا لتُقاوم الفراغ. أمام هذا كله، يصبح التمسك بالحكي فعلَ علاجٍ بطيء: نُسمّي ما فقدناه لنمنحه فرصة البقاء في اللغة.
سؤال العودة: حقٌّ مُعلَّق وبيتٌ لا يُعوَّض
تختتم الشهادة بجملة مفصلية: “فقدنا كل شيء، حتى حقّ العودة لديارنا.” وهو قول يختصر فجوةً بين نصّ الحقوق وواقع المعيشة اليومية. فالعودة هنا ليست شعارًا؛ هي حقٌّ مرتبط بالبيت كمساحة هوية. ومع أنّ الحجارة صارت كومة، إلا أن معنى البيت—مكان اللَّمّة، رائحة الخبز، ظلّ الأخ—يبقى صعب التعويض مهما اكتملت الخيام مؤقتًا أو طال زمنها.
حين تصير الشهادة وثيقةً للذاكرة
لا تقدّم هذه السطور إحصاءات، ولا تُسجّل تواريخ؛ إنّها تُقدّم ما هو أندر: أثرَ الفقد في اللغة. في بيتٍ كان يُعرّف أصحابه، وفي خيمةٍ تُعرّف غيابهم، تظلّ الذاكرة تقاوم بوسيلتها الأصدق: الحكي. ولعلّ تحويل التجربة الفردية إلى شهادةٍ مكتوبة هو أول الطريق لتثبيت ما لا يجب أن يُنسى: أن للبيوت أرواحًا، وأن للروائح حقًا في أن تبقى جزءًا من الهوية، وأن للعودة معنىً لا يُختزل في معبرٍ أو تصريح
