ما جعلني أكتب هذا المقال هو جلسة حملت الكثير من الأسئلة العميقة جمعتني على هامش مهرجان القاهرة السينمائي الدولي مع الدكتور وليد سيف من مصر والدكتور عبد الرزاق الزاهير من المغرب.
كانت تلك الجلسة مثالًا لما يجب أن تكون عليه المهرجانات العربية فضاءات مفتوحة لتبادل الرأي ومناقشة المشكلات الحقيقية التي تعيشها الصناعة بعيدًا عن الأضواء والاحتفالات الشكلية ومن هذا الحوار انطلقتُ نحو التفكير في موقع السينما العربية اليوم وفي مسؤولية الدولة والمثقفين والجيل الجديد في عالم سريع التغيّر.
لم يعد الجيل الحالي مرتبطًا بالذاكرة الفنية التي شكلت وجدان آبائه شباب اليوم لا يعرفون فريد شوقي ولا فؤاد المهندس ولا يربطهم رابط وجداني مع الكلاسيكيات التي صنعت الهوية البصرية العربية.
في المقابل ينجذبون بشكل أكبر للمسلسلات الكورية والتركية ومحتوى المنصّات لا لأنها الأفضل دائمًا بل لأنها الأقرب إلى إيقاع حياتهم والأكثر حضورًا في فضائهم اليومي.
وسط هذا التحول يبدو الإنتاج العربي وكأنه فقد جزءًا من تأثيره وقدرته على تمثيل الجيل ما يطرح سؤالًا أساسيًا كيف نصنع محتوى قادرًا على مخاطبة هذا الجيل بلغته؟
التاريخ يخبرنا أن الدولة لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الوعي العربي فالأعمال الكبرى التي بقيت جزءًا من ذاكرة الناس—متلا مسلسل بين القصرين ومسلسل ليالي الحلمية ومسلسل هوانم قاردن سيتي واوراق مصريه كانت مشاريع دولة قبل أن تكون مشاريع أفراد.
وعندما ترأس الراحل ممدوح الليثي افلام التلفزيون وبعدها رئيس قطاع الانتاج في التلفزيون تم انتاج الطريق إلى إيلات ولصوص 5 نجوم وفيلم ايوب وفيلم لا اكذب ولكني أتجمل جميعها لم تكن مجرد إنتاجات ترفيهية بل كانت مشروعات اجتماعية وثقافية ووطنية مستندة إلى رؤية لا إلى منطق الربح
مستندة إلى المؤلف والذي يجب ان يطبق مثلث الانتاج وهي تثقيف وترفيهي وتوعوي
ولو ترك الأمر للقطاع الخاص وحده لما ظهرت هذه الأعمال التي صنعت وجدان المنطقة وأنتجت سرديتها المشتركة. ولهذا، فإن تراجع دور الدولة يعني بالضرورة تراجع قدرتنا على صناعة رواية وطنية وقومية.
وهذا لا يعني انني ضد القطاع الخاص بالعكس تماما أنا مع تكامله مع الدوله لإنتاج قادر على الاستنهاض
ومع التطور التكنولوجي الكبير يبدو المشهد أكثر تعقيدًا صحيح أن أدوات الإنتاج أصبحت في متناول الجميع وأن فيلمًا قد يُصنع بكاميرا صغيرة ويصل إلى ملايين المشاهدين
لكن هذا الانفتاح لا يلغي دور الدولة بل يعيد تعريفه
اعتقد ان المطلوب اليوم هو دور تنظيمي وثقافي واستراتيجي يضع قواعد واضحة للصناعة الدرامية والسينمائية ويحمي الهوية وسط موجة المحتوى العالمي ويضمن بيئة تسمح للشباب بالتعلم والإنتاج والابتكار.
فالقوة الناعمة للدولة ليست ترفًا بل جزءًا من بنيتها الرمزية والسينما إحدى أهم أدواتها.
تنعكس هذه الإشكالية أيضًا في واقع المهرجانات العربية فهناك مهرجانات تُقام في مناطق لا يوجد فيها دار عرض واحدة وأخرى بلا جمهور حقيقي وثالثة يغلب عليها الخطاب الاحتفالي والظاهرة الصوتية التي يصنعها بعض المثقفين غير الملتحمين مع الشباب ولا مع أسئلتهم العميقة.
في المقابل هناك مهرجانات أكثر وعيًا ونضجًا تحوّل منصاتها إلى فضاءات للحوار مثل الجلسة التي ذكرتها في البداية حيث تُناقش الصناعة بجدية ويُعرض الواقع كما هو.
من هنا تأتي أهمية إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص فالقطاع الخاص عنصر أساسي ومرن ومغامر لكنه وحده غير قادر على بناء ذاكرة أمة. والدولة رغم دورها الكبير لا تستطيع بمفردها صناعة الشراكة الواضحة والمطلوبة والمتوازنة بين الطرفين هي الطريق الوحيد لخلق محتوى عربي قادر على المنافسة والتأثير والبقاء.
وفي الحالة الفلسطينية تتضاعف الأسئلة لدينا دستور قيد الإعداد ولا يوجد ضمن لجنة صياغته أي مختص سينمائي أو درامي رغم أن الصورة أصبحت أداة مركزية في معركة الوعي والرواية.
لدينا نخب مثقفة ومهتمة لكن اهتمام الكثيرين يبقى في إطار الترف الثقافي لا الفعل المؤثر ولدينا جيل جديد يمتلك حسًا بصريًا عاليًا لكنه بلا مؤسسة وطنية تُنظّم طاقاته أو تُوجّهها نحو بناء سردية فلسطينية معاصرة وقادرة على مواجهة الرواية الإسرائيلية بلغتها الأكثر تأثيرًا لغة الصورة.
ما تعلمته من تلك الجلسة في مهرجان القاهرة هو أن السينما ليست نشاطًا هامشيًا بل مشروع وعي جماعي وأن التكنولوجيا مهما تطورت ستبقى بحاجة إلى رؤية تُنظّمها وأن المهرجانات ليست احتفالات بل مختبرات للأفكار وأن الجيل الجديد يريد صورة تشبهه وتحكي عنه وتساعده على فهم العالم وأن الدولة—وإن اختلف دورها عبر الزمن—ما زالت حجر الأساس في أي نهضة فنية حقيقية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت
