إجراءات الداخلية لتسهيل عمل مؤسسات المجتمع المدني في غزة بين الإشادة والانتقاد

مجلس منظمات حقوق الانسان.jpg

في الوقت الذي يواجه فيه قطاع غزة واحدة من أقسى المراحل في تاريخه بسبب حرب الإبادة واستهداف البُنى الرسمية ومقرّات المؤسسات، برزت مؤسسات المجتمع المدني كرافعة أساسية لتقديم الخدمات الإنسانية والإغاثية للمواطنين، خاصة في ظلّ تعثّر عمل كثير من الأجهزة الحكومية أو تدميرها بالكامل. في هذا السياق، طُرحت بقوّة مسألة الإجراءات التي اتخذتها وزارة الداخلية لتذليل العقبات أمام عمل هذه المؤسسات وضمان استمرار دورها الحيوي في خدمة المواطنين.

جاء ذلك خلال حلقة إذاعية خاصة بالشراكة مع الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، استضافت جميل سرحان، نائب مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في قطاع غزة، ومحمد التميمي، الناطق باسم وزارة الداخلية الفلسطينية، لمناقشة واقع مؤسسات المجتمع المدني، والتحديات التي تواجهها، وطبيعة تدخلات وزارة الداخلية لتسهيل عملها في المرحلة الراهنة. 

واقع قاسٍ لمؤسسات المجتمع المدني

في مداخلته، وصف جميل سرحان واقع المؤسسات الأهلية في غزة بأنه امتداد مباشر لمعاناة الشعب الفلسطيني في القطاع. فهذه المؤسسات، بحسب قوله، تعرّضت لتدمير واسع في مبانيها، وتواجه صعوبات حادّة في وصول موظفيها إلى أماكن عملهم، إلى جانب نقص كبير في الموارد والإمكانيات التشغيلية، فضلاً عن استشهاد أو إصابة عدد من العاملين فيها وأفراد عائلاتهم.

وأشار سرحان إلى أنّ غياب الأمن وضعف سلطة القانون و"حالة الانفلات الأمني" في بعض المراحل، دفعت مؤسسات المجتمع المدني إلى القيام بأدوار تتجاوز طبيعتها الأصلية، لتصبح في مواقع كثيرة بمثابة بديل عن الجهات الحكومية، سواء في إيصال المساعدات، أو نشر الوعي، أو التدخل لحلّ النزاعات والمشكلات حسب اختصاص كل جمعية.

ورغم أن بعض هذه المؤسسات قدّم أدوارًا "فوق الطاقة"، وفق تعبيره، إلا أنها أُصيبت بقدر كبير من الوهن نتيجة تراكم التحديات العامة، من نقص التمويل وإيقاف دعم عدد من الممولين، إلى استهداف مؤسسات بعينها بقرارات وقيود دولية أثّرت بشكل مباشر على قدرتها على الاستمرار في العمل.

قيود دولية وتجميد حسابات… ودور غائب في المواجهة

وتوقف سرحان عند مثال مؤسسة "الضمير" والمؤسسات الحقوقية الأخرى التي فُرضت عليها قيود من وزارة الخزانة الأميركية، من بينها مؤسسات تعمل في غزة كـ"مركز الميزان" و"الحق" و"المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان"، حيث ترتبط هذه القيود – كما أوضح – بتعاون هذه المؤسسات مع المحكمة الجنائية الدولية.

وبحسب سرحان، سارعت بعض البنوك الفلسطينية إلى تنفيذ هذه القيود قبل دخولها حيز التنفيذ بشكل كامل، فمنحت المؤسسات المعنية مهلة لا تتجاوز أسبوعًا لسحب أموالها، قبل أن تقدم على تجميد الحسابات نهائيًا، رغم أن القرار كان من المفترض أن يُطبّق بعد شهر.

وانتقد سرحان غياب التدخل الإيجابي من الجهات الفلسطينية الرسمية، وفي مقدمتها وزارة الداخلية وسلطة النقد، لمواجهة هذه التطورات أو التخفيف من آثارها، معتبرًا أن المطلوب من الجهات التنفيذية ثلاث مهمات رئيسية: تمكين المؤسسات من أداء أدوارها، إزالة العقبات من طريقها، وتقديم التسهيلات العملية التي تضمن استمرارية عملها الإنساني والحقوقي.

انتقادات لإجراءات داخلية في توقيت حرج

وتطرق سرحان إلى جانب آخر من الإشكاليات، يتعلق بإجراءات اتُّخذت من قبل وزارة الداخلية في غزة بعد الحرب، حيث تم توجيه رسائل لعدد من الجمعيات تطالبها بتوفيق أوضاعها وإجراء انتخابات داخلية وتجديد مجالس إداراتها، في وقت ما تزال فيه كثير من المؤسسات بلا مقرات، وطواقمها مشتتة بين النزوح والبحث عن الحد الأدنى من مقومات العمل.

ووصف هذه الخطوة بأنها "غير منسجمة" مع حجم الكارثة التي يعيشها القطاع، مشيرًا إلى حالات طُلب فيها من ممثلي جمعيات استلام كتب رسمية في أماكن غير تقليدية، مثل مداخل مستشفيات، ما يعكس – برأيه – غياب رؤية متكاملة تأخذ بالاعتبار الظروف الاستثنائية التي تمر بها المؤسسات والجمهور.

ورغم ذلك، أوضح سرحان أن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان لم تتلق حتى الآن شكاوى رسمية من مؤسسات المجتمع المدني ضد وزارة الداخلية تتعلق بعقبات مباشرة، لكنه شدّد على ضرورة أن تبادر الوزارة إلى فتح حوار وشراكة منظّمة مع هذه المؤسسات، خاصة في الملفات المعقدة مثل تعامل البنوك مع حساباتها وقيود التحويلات المالية.

الداخلية: نعمل وفق القانون ونقدّر دور المجتمع المدني

في الجهة المقابلة، قدّم محمد التميمي رواية وزارة الداخلية حول دورها في تنظيم ومتابعة عمل مؤسسات المجتمع المدني. وأوضح أن مهمة الوزارة محدّدة بموجب قانون رقم (1) لسنة 2000 بشأن الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية، الذي يمنحها صلاحية تسجيل الجمعيات وإكسابها الشخصية القانونية، ومتابعة نشاطها بما ينسجم مع القانون والأنظمة الداخلية المعتمدة.

وأكد التميمي أن وزارة الداخلية تنظر إلى مؤسسات المجتمع المدني بوصفها "رديفًا ومساندًا" للحكومة في خدمة المواطن وتنمية حياته، لافتًا إلى أن الحرب الأخيرة وما رافقها من دمار واستهداف للبنى التحتية أظهر بوضوح الدور الحيوي الذي تؤديه هذه الجمعيات في العمل الإنساني والإغاثي، "دور لا يمكن لأحد أن ينفيه"، على حد قوله.

وبيّن أن القيادة الفلسطينية، وعلى رأسها الرئيس، ومعه وزير الداخلية، أصدروا منذ اللحظات الأولى للحرب توجيهات واضحة تركز على قضيتين أساسيتين: استدامة عمل مؤسسات المجتمع المدني قدر الإمكان رغم الاستهداف الشديد، وتقديم كل ما يمكن من تسهيلات من أجل تمكينها من استكمال عملها الإنساني في القطاع.

تسجيل جمعيات جديدة وتجديد اعتماد المئات

كجزء من هذه التوجهات، كشف التميمي أن وزارة الداخلية قامت خلال العام الماضي بتسجيل 27 جمعية جديدة، واعتماد مجالس إدارتها، استجابة لاحتياجات المجتمع في غزة وانسجامًا مع حق المواطنين القانوني في تأسيس الجمعيات حتى في أوقات الحرب، إلى جانب توسيع مساحة العمل الإغاثي والإنساني لمواجهة اتساع رقعة الحاجة.

كما قامت الوزارة بتجديد اعتماد مجالس إدارة لنحو 400 جمعية ومؤسسة عاملة، بهدف تمكينها من مواصلة عملها الإنساني وحماية استمراريتها القانونية في ظل الظرف الاستثنائي، ما يسمح لها بالتعامل مع الممولين، وتوقيع الاتفاقيات، وفتح الحسابات البنكية، والاستمرار في تقديم خدماتها للمواطنين دون فراغ قانوني.

تسهيلات مالية وقنوات تواصل مفتوحة

فيما يخص الجانب المالي، أوضح التميمي أن آليات التواصل مع وزارة الداخلية متاحة وفاعلة من خلال الإدارة العامة للمنظمات غير الحكومية والشؤون العامة، حيث يمكن لأي مؤسسة أو جمعية في غزة التواصل مباشرة عبر الاتصال الهاتفي أو تطبيق "واتساب" أو غيرها من وسائل التواصل، لإرسال الأوراق المطلوبة وتسوية أوضاعها القانونية والإدارية عن بعد، في ظل صعوبة الحركة والتنقل.

وأضاف أن الوزارة تعمل وفق القانون "وبروح القانون" في الوقت نفسه، بحيث تراعي طبيعة الظرف الإنساني الذي يعيشه القطاع عند التعامل مع طلبات الجمعيات، ولا تقتصر على الجانب الإجرائي البحت، مشيرًا إلى أن الموافقات على الحوالات المالية الخارجية تُمنح بعد استكمال الوثائق المطلوبة، دون تسجيل "مشكلات جوهرية" في هذا الملف كما يؤكد.

وفي ما يتعلق بإشكاليات البنوك، شدّد التميمي على أن وزارة الداخلية هي الجهة المسؤولة عن منح التسجيل والشخصية القانونية للمؤسسات، لكنها ليست الجهة المنظمة للقطاع المصرفي، الذي يخضع لاختصاص سلطة النقد الفلسطينية. ومع ذلك، دعا المؤسسات التي تواجه مشاكل في فتح أو إدارة حساباتها البنكية إلى التوجّه إلى الإدارة العامة المختصة في الوزارة، التي تقوم بدورها بالتواصل فورًا مع سلطة النقد لحل الإشكالات قدر الإمكان.

شهادات "حسن السلوك" وتمكين الأفراد

وأشار التميمي إلى جانب آخر من عمل الوزارة يمسّ البيئة العامة لعمل المجتمع المدني، وهو إصدار شهادات "حسن السيرة والسلوك". فقد أصدرت الداخلية، بحسب ما ذكر، نحو 3000 شهادة لمواطنين من قطاع غزة خلال العامين الأخيرين، بهدف تمكينهم من الالتحاق بفرص عمل داخل فلسطين أو في المؤسسات الدولية، أو السفر للعلاج أو الدراسة في الخارج، ما يسهم في تخفيف الأعباء عن كاهل الأسر والمؤسسات على حد سواء.

بين الرؤيتين: الحاجة إلى شراكة أوسع

المعطيات التي طرحها الضيفان ترسم صورة مركّبة لمشهد عمل مؤسسات المجتمع المدني في غزة. فمن جهة، هناك واقع قاسٍ من الدمار ونقص الموارد وقيود التمويل وقرارات دولية أثّرت بشكل مباشر في استمرار عمل مؤسسات حقوقية وإنسانية. ومن جهة أخرى، هناك إجراءات تقول وزارة الداخلية إنها اتخذتها لتسهيل عمل هذه المؤسسات، من تسجيل وتجديد واعتماد وتوسيع لقنوات التواصل وتقديم تسهيلات في ملفات إدارية ومالية مختلفة.

لكن ما يتفق عليه الطرفان، وإن من زاويتين مختلفتين، هو الحاجة إلى مزيد من الحوار المنظّم والشراكة المؤسسية بين وزارة الداخلية ومؤسسات المجتمع المدني، خصوصًا في الملفات الحساسة مثل علاقة المؤسسات بالقطاع المصرفي، وآليات مواجهة القيود الدولية، وترتيب الأولويات في مرحلة ما بعد الحرب.

في ظل ما يعيشه قطاع غزة من أوضاع إنسانية كارثية، يبدو أن نجاح هذه الشراكة لن يكون مجرد تفصيل إداري، بل عاملًا حاسمًا في قدرة مؤسسات المجتمع المدني على الاستمرار في تقديم خدماتها للمواطنين بكرامة وعدالة، وعلى أن تبقى ركيزة أساسية في صمود المجتمع الفلسطيني في مواجهة آثار الحرب الطويلة.

المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - رام الله