داخل ورشة صغيرة متواضعة في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، يمكن رؤية أكوام الطين متناثرة على الأرض، بينما ينساب الضوء من نافذة ضيقة لتسلط لمحة على الفنان الفلسطيني خالد حسين، وهو يمسك قطعة طين بين أصابعه، يضغط عليها ويعيد تشكيلها، وكأن يديه تنبضان بحياة كل قصة يرويها هذا الطين.
هنا، تتحول المواد الخام الصلبة إلى وجوه بشرية تحمل حكايات الحرب والمعاناة الإنسانية، التي عاشها سكان القطاع على مدار السنوات الأخيرة.
الورشة صغيرة، لكنها مليئة بالحياة، الجدران مغطاة بصور لمجسمات نحتها حسين منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، بعض هذه الوجوه تعكس لحظات ألم صامتة، وأخرى تصرخ بالحزن على فقدان أحبائهم.
بين الصور، تتناثر قطع معدنية صغيرة كانت جزءا من جدران ومفروشات المنازل المدمرة، وعجلة دراجة بلاستيكية تحولت إلى قاعدة لعمود حديدي تستخدم لتشكيل الطين وتحريكه، كل قطعة في هذه الورشة تحمل ذاكرة، وكل زاوية تحكي قصة عن حياة تأثرت بالنزوح والخوف والجوع.
ويقول حسين (45 عاما) وهو أب لأربعة أبناء، بينما كان يقتطع الطين بعناية بين أصابعه لوكالة أنباء ((شينخوا)) "فن النحت بالطين له قوة غريبة، يمكنه أن يصل مباشرة إلى قلب المشاهد، كل منحوتة ليست مجرد شكل، بل تجربة عاطفية تنقل الألم والأمل في الوقت نفسه، عندما أعمل، أشعر أنني أتحدث مع كل روح مرت بهذا الألم".
مثل غالبية سكان قطاع غزة، فقد الفنان التشكيلي منزله الكائن في رفح جنوب قطاع غزة بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي المدينة في مايو 2024، واضطر للنزوح هربا من الموت عدة مرات.
ألم خسارة "شقى عمره" ومئات المجسمات الفنية التي نحتها عبر عقد من الزمن، أثر على وضعه النفسي لعدة شهور قبل أن يقرر بأن يستعيد نشاطه وأن يفرغ طاقته السلبية عبر تجسيد الواقع الأليم في غزة من خلال مجسماته الفنية.
ويضيف بشيء من الحسرة "خسرت كل شيء مرة واحدة… المنازل، والأعمال، والذكريات، لكن الفن كان وسيلتي للبقاء والاحتفاظ بالذاكرة، هو ما يجعلني استمر رغم كل شيء".
ويوضح بأنه قرر أن يعكس التعب النفسي والجسدي للسكان الذين عاشوا الحرب والجوع والخوف والنزوح، من خلال مجسمات لوجوه سكان حقيقيين عانوا من ويلات الحرب.
ويتابع "كل منحوتة تمثل شخصا حقيقيا عاش الحرب، بعضهم نجوا، والبعض الآخر فقدوا حياتهم، وحكاياتهم لا تزال عالقة في هذه التماثيل، كل مجسم شهادة حية لمن يريد فهم معاناة أهل غزة".
يعتمد حسين على أدوات بسيطة، من ملاعق وسكاكين صغيرة لتشكيل الطين، ويشير إلى أن الحرب دفعته للعودة للأدوات البدائية، قائلا "قبل الحرب كنت أملك أدوات متطورة، اليوم عدت إلى البدائية، حتى عجلة الدراجة أصبحت أداة لمساعدتي على تحريك الطين وتشكيله".
الطين الذي يستخدمه يجمعه غالبا من ركام المنازل المدمرة، ما يعطي كل عمل بعدا رمزيا إضافيا، ويقول "الطين مادة الأرض الأولى، يعرفها أصحاب الأرض، يمكن تشكيله بسهولة، لكنه يحمل قوة تعبيرية تصل مباشرة إلى المشاهد، كل قطعة تحمل جزءا من روح هذا المكان".
وبسبب نزوحه المتكرر لأكثر من خمس مرات، لجأ حسين إلى طريقة فريدة للتعامل مع أعماله الفنية، فهو ينحت التمثال، ويصوره ويوثقه، ثم يهدمه بيديه بعد الانتهاء من التوثيق.
ويشرح "الهدم صعب، كأنني أفقد أطفالي الصغار، لكن أفعله خوفًا من أن تصبح الأعمال عبئا أثناء النزوح، الهدم الرمزي يعكس هشاشة الحياة هنا، فالمجسمات هشة مثلنا، ونحن نعيش على حافة الانكسار لكننا نحاول البقاء".
ويؤكد حسين أن وجوه هذه التماثيل تعكس أيضا شعوره الشخصي بما يمر به هو وأسرته، "أنا واحد من سكان غزة، أعيش نفس الظروف الصعبة، وأحاول أن أنقل المشاعر الإنسانية لكل من يشاهد هذه الأعمال، كل منحوتة تحمل جزءا مني، من حياتي، من الألم والأمل في نفس الوقت".
المعاناة هنا ليست مقتصرة على الجوع، بل تشمل الكلفة النفسية والإنسانية للحصول على ضروريات الحياة الأساسية من طعام ومياه وأمان.
ويضيف "الحياة هنا مرهقة، كل يوم يحمل تحديات جديدة، الذهاب للحصول على المياه أو الطعام أو حتى تأمين مأوى آمن أصبح مهمة يومية، لكن الفن يظل ملجأ، يمكنني من خلاله التعبير عن كل ما يحدث، عن الحزن والخوف، وعن رغبتنا في الاستمرار".
أعماله الفنية ليست مجرد قطع للعرض، بل جزء من عملية توثيق للتاريخ، لتبقى ذاكرة بصور ثلاثية الأبعاد للأجيال القادمة.
ويشرح أن "كل مجسم يحمل قصة حقيقية لشخص عاش الحرب أو فقد حياته، الفن يسجل التاريخ، ليظل شاهدا حيا على المعاناة والأمل رغم الدمار".
ومن المقرر أن ينظم حسين معرضا فنيا في غزة حال تحسنت الظروف، قائلا "أتمنى أن يتمكن الناس من مشاهدة هذه الأعمال هنا، لتفهم تجارب أهلهم وشخصياتهم، وليس فقط من خلال الأخبار.
