في ظل منخفض جوي قوي يضرب قطاع غزة، وترافقه رياح شديدة وأمطار غزيرة وانخفاض ملحوظ في درجات الحرارة، يقف الفلسطيني علي الحجار (55 عاما) وسط أنقاض منزله المدمر في حي النفق بمدينة غزة، ممسكا بمطرقة حديدية ثقيلة، يضرب بها أعمدة الباطون المتصدعة لاستخراج قضبان الحديد المدفونة داخل الركام.
بالنسبة له، لم يعد يبحث عن مقتنيات أو ذكريات، بل عن وسيلة بدائية تحمي عائلته من قسوة الشتاء.
ويقول الحجار لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن منزله دُمر خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومنذ سريان الهدنة لم يحصل على خيمة أو مأوى يؤويه مع أسرته المكونة من سبعة أفراد.
ويضيف أن اشتداد المنخفضات الجوية المتلاحقة، وتسرب مياه الأمطار إلى أماكن النزوح، دفعه إلى اتخاذ قرار إعادة استخدام حديد منزله لبناء خيمة أكثر صلابة.
منذ ساعات الصباح الأولى، يعمل الحجار بمساعدة عاملين آخرين على تكسير الأحجار واستخراج الحديد، رغم البرد القارس وتساقط الأمطار المتقطع.
ويقول "إن العمل في مثل هذه الظروف شاق وخطير، لكن الحاجة أقسى، موضحا أن الخيام المصنوعة من النايلون والخشب لم تعد قادرة على الصمود أمام الرياح العاتية".
وخلال المنخفض الجوي الأخير، انهارت الخيمة التي كان قد أقامها من الخشب والأغطية البلاستيكية بعد ساعات من هبوب الرياح القوية، ما اضطره وعائلته إلى قضاء ليلة طويلة في العراء.
ويشير إلى أن تلك الليلة، التي غمرت فيها المياه الأغطية والفرش القليل الذي يملكونه، كانت دافعا حاسما للبحث عن بديل أكثر تحملا.
بعد استخراج الحديد من الركام، يشرح أنه يتم تعديله باستخدام أدوات بدائية، حيث يُطرق ويُعاد تشكيله على هيئة أقواس، بما يسمح بانسياب مياه الأمطار عن سقف الخيمة ويقلل من خطر تجمعها.
ويؤكد الحجار أن هذه الطريقة لا توفر حماية كاملة، لكنها تمنحهم فرصة أفضل للصمود أمام المطر والرياح.
وبنبرة يغلب عليها الحزن، يقول الحجار "نستخرج الحديد من بيوتنا التي كانت تعج بالحياة، لنقيم به خيمة بسيطة نواجه بها برد الشتاء وخطر الانجراف بسبب الأمطار".
ويضيف أن ما يحدث يعكس حجم المأساة التي يعيشها سكان القطاع مع دخول فصل الشتاء دون حلول جذرية.
ولا يختلف الحال كثيرا بالنسبة لعباس سعود، فلسطيني آخر استلهم الفكرة من الحجارة، وبدأ بدوره استخراج الحديد من بقايا منزله المدمر.
ويقول سعود لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن ما يقومون به لم يعد مجرد مبادرات فردية متفرقة، بل أصبح ظاهرة متنامية في عدة مناطق من قطاع غزة، خاصة في المناطق التي تعرضت لتدمير واسع.
ويضيف أن "العديد من العائلات باتت مضطرة لإعادة استخدام حديد منازلها المدمرة، في ظل عدم توفر بدائل حقيقية للسكن، وتأخر وصول الخيام والكرفانات".
ويوضح سعود أن الظروف الجوية القاسية، لا سيما المنخفضات الجوية المتتالية المصحوبة برياح شديدة وأمطار غزيرة، سرعت من انتشار هذه الظاهرة، بعدما ثبت لكثير من العائلات أن الخيام التقليدية المصنوعة من النايلون أو الخشب لا تصمد طويلا أمام هذه الظروف، ويشير إلى أن كثيرا من هذه الخيام تتعرض للتمزق أو الانقلاب خلال ساعات قليلة من اشتداد الرياح.
ويتابع سعود "إن الحديد، رغم صعوبة استخراجه وخطورة العمل به، يوفر قدرا أكبر من الثبات مقارنة بالمواد الأخرى المتاحة، لافتا إلى أن استخدامه يسمح ببناء هياكل أكثر تماسكا تساعد على تثبيت الخيام وتقليل الأضرار الناتجة عن الأمطار وتسرب المياه".
ويضيف أن تأخر إدخال مواد البناء، وتعثر ملف إعادة الإعمار، أجبر السكان على البحث عن حلول مؤقتة تتيح لهم الصمود خلال فصل الشتاء، مؤكدا أن ما يجري لا يعكس خيارا مفضلا بقدر ما يعكس محاولة للتكيف مع واقع فرضته الحرب والقيود المستمرة.
ومع ذلك، يشرح سعود أن هذه الحلول تظل محدودة ومؤقتة، ولا تلبي الحد الأدنى من متطلبات السكن الآمن، معربا عن أمله في تسريع إدخال المساعدات ومواد الإيواء، لتخفيف معاناة العائلات التي تواجه فصل الشتاء في ظروف صعبة.
وفي مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، تعمل عائلة محمد الشنطي (47 عاما) على تعديل كميات كبيرة من الحديد المستخرج من بقايا منزلها المدمر، وبالقرب من الركام، تستعد العائلة لإقامة عدة خيام متلاصقة في محاولة للحد من تأثير الرياح القوية وتقليل تسرب مياه الأمطار.
ويقول الشنطي لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن نقص مواد البناء وارتفاع أسعار الأسمنت في الأسواق المحلية دفعه إلى اللجوء لهذه الطريقة، ويضيف أن الخيام التقليدية لم تعد صالحة للاستخدام مع تكرار المنخفضات الجوية، إذ تتحول أرضيتها إلى طين، وتتسرب المياه إلى داخلها، ما يزيد من معاناة الأطفال والمرضى.
ويضيف الشنطي أنه في حال التوصل مستقبلا إلى اتفاق لإعادة الإعمار، فسيتم التخلص من هذا الحديد والباطون، مؤكدا أن استخدامه حاليا لبناء خيام أكثر متانة يعد حلا مؤقتا فرضته الظروف القائمة.
ولا تزال إسرائيل تمنع إدخال مواد البناء والإعمار إلى قطاع غزة، رغم سريان وقف إطلاق النار منذ العاشر من أكتوبر الماضي، ما يزيد من تعقيد الأوضاع الإنسانية، ومع دخول فصل الشتاء، يعيش معظم سكان القطاع في خيام مؤقتة ومهترئة، لا توفر حماية كافية من الأمطار والرياح.
وتتحول المنخفضات الجوية المتتالية إلى مصدر قلق يومي للغزيين، إذ تتسبب في غرق الخيام، وتلف الأمتعة القليلة، وزيادة المخاطر الصحية، خاصة بين الأطفال وكبار السن.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي، الذي تديره حركة حماس في غزة، في بيان، إن القطاع يواجه كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث تعيش أكثر من 288 ألف أسرة ظروفا قاسية في ظل نقص المأوى، وأوضح البيان أن قطاع غزة يحتاج إلى نحو 300 ألف خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأدنى من السكن الإنساني، خصوصا مع استمرار الظروف الجوية الصعبة.
ويؤكد سكان غزة أن إعادة استخدام حديد منازلهم المدمرة لبناء خيام، رغم خطورته ومحدوديته، يعكس محاولات يائسة للبقاء في مواجهة الحرب وتداعياتها، والمنخفضات الجوية التي تزيد من قسوة الحياة اليومية في القطاع المحاصر.
