لم تكن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" مضطرة لأن تتم زيارة رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل إلى عمان، بعد سلسلة التأجيلات غير المبررة التي تعرضت لها الزيارة، ما أتاح الفرصة لوسائل الإعلام والمحللين والمراقبين جميعاً لأن يدلي كلُ فريقٍ بدلوه في هذه الزيارة، وما إذا كانت ستتم أم لا، وهل سيلتقي العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني مشعل على انفرادٍ مع وفده بعيداً عن الوسيط القطري أم لا، وما إذا كانت الزيارة برتوكولية فقط، أم أنها لن تتوقف عند الصورة الرسمية التي تجمع بين الأطراف الثلاثة، وأنها ستتعداها إلى لقاءاتٍ أخرى مع رئيس الحكومة الأردنية عون الخصاونة، ووزير خارجيته ومدير المخابرات العامة الأردنية، لتؤسس لعلاقاتٍ نوعية جديدة بين الأردن وحركة حماس، وأن الحكومة الأردنية ستستغل هذه الزيارة لتعلن فيها عن عدم دستورية قرار الإبعاد الذي اتخذته حكومة عبد الرؤوف الروابدة، وستستغل وجود قادة حركة حماس الذين أبعدوا منها لتسمح لهم بحرية الإقامة في بلدهم الأردن، كونهم مواطنين أردنيين لا يجوز إبعادهم عن وطنهم، ومن حقهم الإقامة فيه.
الزيارة قد تمت وانتهت، وعرفت نتائجها منذ اللحظة الأولى التي تأخر فيها التحاق مشعل بلقاء الملك الأردني وولي العهد القطري، إذ لم يدخلا معاً، كما لم يجتمعا معاً على مائدة الغداء الملكية، التي حدد فيها رئيس الديوان الملكي مكان جلوس كل شخصٍ، والمائدة التي سيجلس عليها لتناول الغداء، ومدى قربه أو بعده من العاهل الأردني، وتأكدت نتائج الزيارة من خلال البرنامج الذي وزعه الديوان الملكي، والذي خلا من أي لقاءٍ رسمي آخر، مع أي مسؤولٍ أمني أو سياسي أردني، واكتفى البرنامج بإتاحة الفرصة للوفد بالإقامة لخمسة أيام، يتهيأ خلالها أو في نهايتها أعضاء الوفد لمغادرة الأردن، ولم تنقذ الزيارة َكلماتُ الملك عبد الله لمشعل أنك بين أهلك وناسك، ولم تحول فشلها إلى نجاح، كما لم تستطع أن تطوي قطيعة اثني عشر عاماً، ولم تتمكن من فتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما، كما لم تترجم ما أعلنه رئيس الحكومة الأردنية من أن إغلاق مكاتب حركة حماس وطرد قادتها كان خطأ سياسياً وقانونياً يجب تصحيحه، إلا أن الخطأ لم يصحح، والقرار لم يشطب، ولم يتم الإعلان رسمياً عن التراجع عنه.
كما لم تظهر في الزيارة القصيرة آثارُ حفاوةٍ وترحاب، ومظاهر احتفاءٍ وسعادة، كتلك التي يلقاها قادة حركة حماس خلال زيارتهم لدولٍ أخرى، بل لم يكن الوفد حراً في تحديد برامجه، أو ترتيب زياراته، أو تحديد الجهات الأهلية التي يرغب في لقائها، كما لم يكن حراً في تنقله ولقائه مع عامة المواطنين الأردنيين من أقربائهم ومعارفهم.
عودة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" إلى الأردن ليست عودة أفراد أو رموز، ليقيموا فيها أفراداً وعائلات، يتمتعون فيها بحق المواطنة، ويتخلصون من مشاكل الملاحقة والمتابعة، ويتمكنون من استصدار جوازات سفرٍ ليسهل عليهم الدخول إلى الأردن في أي وقت والسفر منه إلى أي مكان، كما أنها ليست عودة مشروطة ومقيدة، أو أداةً توظف لخدمة أجنداتٍ خاصة، لمواجهة تداعيات الربيع العربي، والاستقواء بها على عوامل التغيير والثورة، أو لمواجهة المبشرين بالوطن البديل، وتهديدهم بأوراقٍ قوية وأحصنة رابحة، إذ كان للزيارة أن تكون فتحاً لصفحةٍ جديدة، وطياً لصفحات الماضي بكل أخطائه، وانحيازاً لخيار المقاومة، ورفضاً لخيارات التسوية والمفاوضات، وحماسٌ اليوم ليست تلك التي كانت في تسعينيات القرن الماضي، وإن كان عقد التسعينيات الذي تميز بالعمليات الاستشهادية النوعية، هو الذي أعطى لحركة حماس هذه الرفعة والمكانة السنية العلية الكبيرة.
حركة المقاومة الإسلامية "حماس" حركةٌ عزيزة أبية كريمة، استطاعت بصدق مقاومتها، وبفعل مجاهديها على الأرض، أن تثبت مصداقية عالية، وتمكنت من فرض احترامها وتقديرها في كل مكان، واستطاعت أن تجعل من نفسها رقماً صعباً يصعب تجاوزه، ويستحيل الالتفاف عليها أو إهمالها، فقد أصبحت ملء سمع الدنيا وبصرها، يحرص العالم كله على أن يلتقي بها، وأن يجتمع مع رموزها، رغم حالة التمنع الظاهرة التي تبديها بعض حكومات الدول الغربية، إلا أن عواصم العالم كله أصبحت تفتح أمام حركة حماس، وبات الملوك والقادة والرؤساء والحكام يهبون لاستقبال حماس والترحيب بها، ولا يقوون على إغلاق الأبواب في وجهها، بل إن من الحكام من يتقرب إلى شعبه بالانفتاح على حركة حماس، ودعوة قيادتها، وتسهيل معاملة المنتسبين إليها.
لم تكن حركة حماس التي باتت قادرة على طرق أي باب، والدخول إلى أي بيت، بحاجةٍ إلى وسيط ليأخذ بيد قادتها لزيارة عمان، واللقاء مع الملك الأردني، فهي حركةٌ سيدة، تملك قرارها المستقل، وإحساسها بالعزة، وتعيش تواضع النصر وكبرياء الحق، وتحوز على ثقة شعبها وأمتها، وتمتلك رصيداً كبيراً من الحب والولاء لها، فهي حركةٌ تقود ولا تقاد، وتتوسط ولا يتوسط لها، ويتقدم رجالها ولا يتأخر قادتها، يشرفون كل مائدة ويرفعون قدر كل من رافقهم، يدخلون كل بيتٍ ودار، ويسيرون بخطىً حثيثةٍ واثقة، بهمةٍ عالية، وقاماتٍ منتصبة، وهاماتٍ ممتشقة، ورأسٍ مرفوع، فهم يمثلون المقاومة ويعبرون عنها، ويحملون فكرها ويشعرون بالعزة بها، ومن أجلها تفتح كل الأبواب، وتتعبد كل الطرق، ليسلكها المقاومون، ويسير عليها المقاتلون، فهي المقاومة وحدها لا الملوك والأمراء التي يعود لها فضل فتح الأبواب، وإجبار الحكومات على فتح عواصم بلادها لقادة المقاومة.
حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لا تتسول أحداً، ولا تنتظر على الأبواب، ولا تخفت الصوت، ولا تنتظر من يأخذ بيدها إلى القصور والبيوت الملكية، ولا تنكس الرأس ولا تحني الظهر، ولا تقدم التنازلات ولا تعطي الضمانات، ولا ترهن كلمتها ولا تتراجع عن مواقفها، إنها تطرق الأبواب بمقاومتها وتدخل، وتجبر كل الرافضين لها أن يعترفوا بها ويتعاملوا معها، وهي لا تتطلع إلى بساطٍ أحمر، وحرسٍ جمهوري أو جوقة ملكية، ومظاهر احتفالية، لكنها تتطلع إلى دم الشهداء الأحمر القاني، الذي أقسمت أن تكون وفيةً له، مخلصةً لرجاله، وأن تواصل درب الشهداء، وأن تسير على نهجهم، وأن تحافظ على عهدهم، وأن تحمل الراية من بعدهم خفاقةً عالية، حتى تحقق غاياتها، وتصل إلى أهدافها.
بيروت في 3/2/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت