منذ انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي في نهايات القرن الماضي, والولايات المتحدة الأمريكية تبذل جهود متواصلة وحثيثة لتفكيك وشرذمة ما تم تفكيكه من الاتحاد السوفيتي. وكأن الولايات المتحدة أرادت للاتحاد السوفيتي ألا يعاد تركيبة وبناءه من جديد. بالفعل راحت الولايات المتحدة تحطم النهايات والأسس التي قام عليها الاتحاد السوفيتي, كي لا تكتب له عودة أو نهضة أو اتحاد جديد, على الأقل في المستقبل القريب.
الاتحاد السوفيتي البالغ مساحته 22 مليون كيلو متر مربع. قسمته الولايات المتحدة نظرياً إلى قسمين, بحيث جعلت روسيا لوحدها في كفة, وبقية الدول السوفيتية في كفة أخرى.
روسيا بالنسبة للإتحاد السوفيتي كانت بمثابة المركز والقلب النابض والعمق الحيوي والاستراتيجي, أما بقية الدول السوفيتية فكانت بمثابة الأطراف التي تدور في فلك المركز. والغاية الأمريكية ها هنا تمثلت في أمرين اثنين, أولهما بث النزاع والفرقة بين دول الأطراف هذه, ثانياً بث الفرقة والنزاع بين دول الأطراف وروسيا, تمهيداً لعزل روسيا وحصارها عن العالم جغرافياً.
العقيدة السياسية والعسكرية والفكرية للشعب الروسي, تعتبر روسيا وحتى لو كانت في أسوأ أحوالها نداً للولايات المتحدة الأمريكية والناتو, ولذلك بالرغم من محاولاتها العديدة وبشتى الطرق والوسائل, عجزت المحاولات الأمريكية المستمرة عن إحداث اختراق في المؤسسات السياسية أو العسكرية الروسية, أو حتى في اختراق الشعب الروسي بشكل فعال ومؤثر, على غرار ما شاهدنا من تجاربها الإختراقية للعديد من الأمم والشعوب في العالم.
لإدراك أمريكا صلابة وقوة الجبهة الداخلية الروسية, ولتأكدها من استحالة اختراق القلب والمركز قبل اختراق الأطراف. راحت السياسة الخارجية الأمريكية ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي تحاول استمالة بعض دول الأطراف نحو المعسكر الغربي.
بالفعل نجحت المساعي الأمريكية في استمالة بعض هذه الدول تجاه المعسكر الغربي المناهض لروسيا, وفي المقابل فشلت أمريكا في استمالة بعض هذه الدول, فراحت تثير الفوضى فيها وتزعزع استقرارها وتثير اللغط الدولي حولها.
اقتحمت الولايات المتحدة دول الأطراف السوفيتية من خلال ضم بعضها لحلف الناتو, كما حدث مع دول البلطيق الثلاث (لتوانيا, لاتفيا,استونيا). أما الدول التي فشلت في البداية الولايات المتحدة في استمالتها نحو المنظومة الغربية, فقد شنت ضدها حرباً ضروساً ولكن بأسلوب ذكي لم تجري عليه العادة في التحارب التقليدي, ألا وهو أسلوب بث الفوضى الخلاقة والثورات المخملية الناعمة, فرأينا الولايات المتحدة تفكك النظام الأوكراني العنيد وتطيح به من خلال (الثورة البرتقالية), ورأيناها تطبق الأسلوب ذاته من خلال (ثورة الورود) في جورجيا.
بالإضافة لتسبب أمريكا في تغيير العديد من أنظمة الحكم في دول الأطراف السوفيتية بأنظمة مناهضة لروسيا, الذاكرة الروسية لم تنسى بعد العدوان الأمريكي المستمر, والشر والأذى الذي تتسبب فيه أمريكا لروسيا على الدوام. بداية من دعم أمريكا للإسلاميين ضد الجيش الروسي الأحمر في أفغانستان, وصولاً إلى استهداف الناتو للصرب الموالين لروسيا في حرب البوسنة, وصولاً إلى نشر الدرع الصاروخي في بلدان شرق أوروبا, وصولاً إلى تأليب أمريكا للجيش الجورجي ودعمه ضد الجيش الروسي في الحرب التي اندلعت بينهما قبل أعوام قليلة.
ومؤخراً جاء ما يسمى بالربيع العربي ليفاقم الفجوة أو الهوة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين, حتى لا نستثني الصين من المعادلة.
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وأمريكا تضيق الخناق حول روسيا, وتكسب النقطة تلو النقطة ضدها, وفي المقابل تبدو روسيا عاجزة حتى عن كسب ولو نقطة واحدة ضد أمريكا, في ذلك النزال الشرس بين الطرفين.
لكن كما نجحت السياسة الخارجية الأمريكية في اختراق جيران روسيا من دول الأطراف السوفيتية, ها هي تطيح بحلفاء روسيا في الشرق الأوسط, من خلال ما يسمى بالربيع العربي, والذي يدار من مكاتب المخابرات المركزية الأمريكية في الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وقطر.
في ذلك الربيع تمت الإطاحة بنظام القذافي الذي جمعته مصالح اقتصادية وعسكرية بروسيا والصين, والحليف الأبرز في المنطقة أي نظام الأسد في سوريا يبدو قاب قوسين أو أدنى من الانهيار, وكذلك الجزائر تلك الحليفة القوية ليست ببعيدة عن تلك المخططات.
في حالة سقوط النظام السوري, سينهار تقريباً نفوذ إيران الإقليمي, أما إذا ما سقط النظام الإيراني هو الآخر في ضربة عسكرية يهدد بها الغرب منذ زمن, فالتوازنات في المنطقة سوف تصبح في غاية السوء بالنسبة لروسيا, وستصبح روسيا محاصرة بحلفاء أمريكا والناتو من أغلب الاتجاهات تقريباً.
الصين هي الأخرى متضررة وبقوة مما يسمى بالربيع العربي, فتلك الثورات التي أطاحت بأنظمة شمولية في الوطن العربي, تهدد النظام الشمولي الأكبر في العالم, ألا وهو النظام الشيوعي الشمولي في الصين.
بلا شك أن روسيا والصين حالياً تجمعهما غاية مشتركة, ألا وهي التصدي للهيمنة والتفرد الأمريكي, والتصدي كذلك للزحف الأمريكي الخطير على منطقتي وسط آسيا والشرق الأوسط.
الولايات المتحدة تسحب البساط وببطء من تحت روسيا والصين, اللتان أضحتا في موقف حرج, لا يحتمل الصبر أكثر ولا يحتمل الانتظار.
هنا تلوح في الأفق حقيقة لا مناص منها, إذا ما أرادت كل من روسيا والصين أن ينقذا ما يمكن إنقاذه من نفوذهما المتآكل وحضورهما العالمي المنحسر. وتلك الحقيقة التي لا مناص منها, هي أنه ينبغي على روسيا والصين أن يؤسسان لتحالف فعلي ومتين على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو), وليس على غرار تحالف معاهدة شنغهاي, والذي لا يعدو لحد اللحظة كونه تحالفاً أو تفاهماً صورياً, أكثر منه فعلياً وعملياً بين روسيا والصين.
في حالة تشكيل هكذا حلف وبفعالية وقوة, فانه سوف يكون أقوى بكثير من حلف الناتو. فالدول المنضوية تحت لواء هذا الحلف سوف تكون أقوى من دول الناتو, من حيث الكم الرهيب لمواردها المختلفة, والقوة التسلحية, وكم العنصر البشري, وكفاءته القتالية, ومقومات الصمود الذاتي, والأساليب الفائقة للمناورة, فضلاً عن شساعة النطاق الجغرافي الذي سيخضع لنفوذ هذا الحلف. فإذا ما تحدثنا عن روسيا والصين كقوتين رئيسيتين في هذا الحلف, نحن بذلك نتحدث عن 26 مليون كيلو متر مربع, وهي المساحة الإجمالية للبلدين فقط. وبالطبع بالإضافة إلى روسيا والصين, ستدخل الكثير من الدول القوية في ذلك الحلف.
بالإضافة لروسيا والصين ستدخل في هذا التحالف بقية الدول الموقعة على معاهدة شنغهاي, وهذه الدول هي كازاخستان, وأوزبكستان, وطاجيكستان, وجميعها تتمتع بموقع جيواستراتيجي أكثر من رائع يربط بين روسيا والصين جغرافياً وحيوياً.
كوريا الشمالية وإيران ستكونان مرشحتان بقوة للانضمام لهذا التحالف, وبعد التذمر المستمر الذي صارت باكستان تعبر عنه تكراراً تجاه التدخلات الأمريكية المستمرة في شئونها الداخلية والتي تؤدي بدورها إلى الإضعاف من هيبتها, باكستان مرشحة وبقوة هي الأخرى للدخول أيضاً في ذلك التحالف. وإذا ما نجح نظام الأسد في البقاء في سوريا فانه سوف يكون وبلا شك عضواً في ذلك التحالف. علاوة على العديد من دول جنوب شرق آسيا التي سوف تكون مرشحة هي الأخرى للانضمام للتحالف كفيتنام على سبيل المثال.
قد يتوغل نفوذ هذا الحلف غرباً نحو أوروبا ليضم دولاً سوفيتية سابقة بجوار تركيا والبحر الأسود, وإلى أقصى الشمال ستكون دولة روسيا البيضاء مرشحة وبقوة للإنظمام للتحالف.
العديد من الدول الأفريقية ستنضم إلى ذلك التحالف خصوصاً الجزائر والعديد من البلدان الأفريقية المطلة على المحيط الهندي والبحر الأحمر.
وإذا ما كانت شهية هذا الحلف مفتوحة من البداية على التوسع, فانه سيكون له تواجد قوي في أمريكا اللاتينية, من خلال الدول التي تحكمها أنظمة يسارية ثورية, مثل فنزويلا.
الكاتب: محمد جهاد إسماعيل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت