وعن القدس مؤتمر آخر (1-2)/د.عبد الله الصالح العثيمين

عقد في الأسبوع الماضي مؤتمر في الدوحة.. عاصمة دولة قطر.. عن القدس كان من أكبر أهدافه المعلنة الدفاع عن هذه المدينة، التي يجري تهويدها على قدم وساق؛ بشرياً وعمرانياً.
وقد حضر المؤتمر مُمثِّلو سبعين دولة من أرجاء العالم المختلفة. وكان من أبرز ما أُعِلن عن نتائجه وجوب دعم المقدسيين بالذات بكافة الوسائل، واستحسان التوجه إلى مجلس الأمن بغرض استصدار قرار يقضي بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في جميع الإجراءات التي اتَّخذتها الحكومة الصهيونية المحتلة منذ احتلالها لتلك المدينة المقدسة عام 1967م.

ولدولة قطر؛ حكومة وشعباً، التقدير والشكر لضيافتها للمؤتمر واستعدادها ببذل ما تستطيع لمعونة المقدسيين بخاصة والفلسطينيين بعامة، ولوقوفها المتميِّز؛ مادياً وإعلامياً، ضد العدوان الصهيوني الهمجي المُؤيَّد من قِبَل المتصهينين في أمريكا وغيرها من الدول الغربية على قطاع غزة قبل عامين.
ومن وحي ذلك المؤتمر يَودُّ كاتب هذه السطور أن يتناول موضوع القدس من زاويتين: الأولى عن ضياع القدس، والثانية عن جدوى التوجه إلى مجلس الأمن؛ أملاً في أن ينصف المظلوم من الظالم.

تبدأ قصة ضياع القدس من تاريخ انخداع من انخدعوا من قادة العرب، فوقفوا مع أعداء المسلمين من الأوروبيين - وفي مقدَّمتهم بريطانيا - ضد الدولة العثمانية. وكان من نتيجة ذلك أن وقعت فلسطين - ودُرَّتها القدس - تحت الانتداب البريطاني المتصهين قادته، الذي مَهَّد الطريق للصهاينة كي يثبتوا أقدامهم على أرض فلسطين الطاهرة. ولقد أدرك من كانت لديهم رؤية بعيدة أن المسجد الأقصى قد أصبح في خطر داهم. وكان من أولئك الذين تَملَّكهم ذلك الإدراك شاعر من شعراء فلسطين الكبار، فَعبَّر عن مشاعره في قصيدة ألقاها في القدس أمام الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، عندما زار القدس؛ قائلاً:

المسجد الأقصى أجئت تزوره

أم جئت من قبل الضياع تُودِّعه؟


ولقد حَلَّ ذلك الخطر الداهم؛ إذ لم يطل وقت على طرح ذلك السؤال حتى أتى الجواب عنه. فكان وداع المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، عام 1967م. ولم تحل دون ضياعه صيحات أطلقها مخلصون من بينهم الشاعر علي محمود طه، الذي قال:

أنـتركهم يغصبون العرو

به مجد الأُبـوُّة والسـؤددا ؟

وليسوا بغـير صليل السلاح

يحيبون صوتاً لنا أو صدى


وكان ما تَمَّ، عام 1967م، وجهاً من وجوه ضياع القدس أو تضييعها. ثم أعقبه بعد حين وجه آخر تَمثَّلت أداته في اتفاقية أوسلو المشؤومة.

وقد عقدت مؤتمرات عديدة عن القدس وأخطار تهويدها. وكان من تلك المؤتمرات مؤتمر الرباط عام 1969م، الذي كان من أبرز ما تناوله إحراق محراب المسجد الأقصى، والذي نتج عنه إنشاء " منظمة المؤتمر الإسلامي". وتوالت المؤتمرات؛ واحداً بعد آخر. أما النتائج الملموسة لها فبعيدة كلَّ البعد عن أن تكون إيجابية فَعَّالة. وكانت قد لاحت بوادر أَملٍ في استعادة القدس المحتلة في ضوء ما تَحقَّق على أيدي المقاتلين الأبطال على الجبهتين المصرية والسورية في بداية حرب عام 1973م. لكن تلك الحرب، التي شرف بها أولئك المقاتلون، وشَرَّفوا أُمَّتهم، انتهت بما خَيَّب الآمال. وقد عَبَّرت عن ذلك على لسان مقاتل من الجبهة المصرية كان يبعث برسائل إلى أُمِّه قبيل الحرب وفي أثنائها وعند نهايتها. وقد أفصح في أولى تلك الرسائل عن تَبرُّمه من السكوت على الضيم، وعن إيمانه بأن تحرير الأرض لا تُحقِّقه إلا دماء الشهداء. ومما قاله في واحدة من تلك الرسائل؛ واصفاً عبور القناة وتحطيم خط بارليف وما تَمَّ على أرض الجولان السورية:

عبر القناة مُظفَّـراً وتَقـدَّما

جيش تبارك زحف موكبه السـما

أُمَّاه لم تعـد الحـواجز مانعـاً

عبرت مواكبنا الحواجز بالدِّمـا

والخَـطّ ! أين حديث من غَنَّوا به

دهراً ؟ على أيدي الأباة تَحطَّما

والجيش ! أين القائلون بأنه

أسطورة كبرى ؟ حنا واستسلما

أُمَّاه أين الشامتون بأُمَّتي ؟

دُحِروا.. هدى ما رَوَّجوا وتَهدَّما

وتَبَّنـوا أن العروبة أُمَّـة

لن يسـتكين إباؤهـا أو يُهـزَمـا

لما دعا داعي الجهاد تسابقت

للساح مفعمة حماسـاً مضرما

تضع الفداء إلى الخلود وسيلة

والتضحيات إلى الكرامة سُـلَّما

أُماه أين الساخرون ؟ طلائعي

تركـت نَعيقهـمُ المُردَّد أبكما

وتساؤلات المغرضين ! تَبدَّدت

لقيت بسيناء الجواب المفحمـا

وعلى رُبَى الجولان تكتب أُمَّتي

في صفحة التاريخ مجداً أعظما

لَهـب تُفجِّـره أَكفُّ أُباتهـا

فتحيل فردوس اليهـود جهنمـا

الآن يا أُمِّـي أعيد كرامتي

أقضي على ذُلِّي قضـاء مـبرما

و غداً ربـوع القدس تصبح حُـرَّة

والمسجـد الأقصـى مُكْـرَمـا


ولما رأى ذلك المقاتل البطل نهاية تلك الحرب، التي خيَّبت الآمال، تَأخَّر في كتابته إلى أُمِّه، فاعتذر عن ذلك التأخر؛ قائلاً:

ماذا أقول ؟ دخان الحزن يخنقني

يغتال في شَفتيَّ النطق والكلمـا

بالأمس حَدَّثت عن نَصرٍ أُحقِّقه

و عن سنا أَملٍ من حَوليَ ارتسما

عن جيشي الحر يصلي المعتدي لَهباً

يجتاز كل حصون البغي مقتحما

عن جحفلٍ سوف يمضي في تَقدُّمه

مهما تَكبِّد من هَـولٍ وبـذل دِمَـا

حتى يعيد إلى الأقصـى هُوّيَّتـه

ويسقي الـذُّلَّ نـذلاً دَنَّس الحـرما

والآن ما ذا أرى ؟ وضع يُمزِّقني

يَبثُّ في مهجتي الأحزان والألمـا

تَوّقَّفت طلقات النار.. عـاد إلى

مجاهل الصمت صوت ضَجَّ واحتدما

والقدس ما زال محتلُّ يُدنِّسها

وغاصب في حماهـا يرفع العَلَمـا

وعدت أبحث عن حَلِّ يُقدِّمه

من صَبَّ فَوقيَ من ويلاته ضرما

وعن وثيقة تَخليصٍ أُوقِّعها

في خيمة جرحت من أُمَّتي الشَّمما


والمراد بالخيمة تلك التي كانت على مسافة الكيلو 101 من القاهرة، وبمقدِّم الحَلِّ أمريكا؛ وذلك قبل أن تَتجلَّى ويلاتها المصبوبة على أُمَّتنا أكثر فأكثر في أفغانستان والعراق.

وفي عام 2009م اختيرت القدس عاصمة للثقافة العربية. وقد كتبت مقالة في تلك المناسبة عنوانها: " أهو التكريم أم التوديع للقدس؟". وبعد أن تناولت تاريخ ما حَلَّ بها من وقوعها تحت الانتداب البريطاني المشؤوم اختتمت تلك المقالة بالقـول: " إذا كان ما يقوم به الصهاينة من حفريات متواصلة تحت قواعد المسجد الأقصى، ومن تهويد لأحياء القدس، وتغيير لبنيتها السكانية، وقضاء على آثارها وتراثها، لم يُحرِّك لدى قادة العرب والمسلمين ساكناً فإن المرء ليحار؛ وهو يسمع ويقرأ أن القدس عاصمة للثقافة العربية هذا العام، ويقول: أهذا العام عام تكريم للقدس أم عام توديع لها؟".

وفي الشهر الثاني من عام 2010م كتبت مقالة بعنوان: "عندما يُؤرَّخ ضياع فلسطين". بدأتها بالقول: " ما يشاهده المرء الآن فصل يكاد يكون الأخير من فصول مسرحية ضياع القضية الفلسطينية". ومما قلته فيها: " إن قادة العرب - منذ مؤتمر مدريد - أصبحوا مقتنعين بتحرير ما احتلَّه الصهاينة من فلسطين عام 1967م بدلاً من المطالبة بتحرير ما احتلُّوه قبل ذلك العام. وبعد اتِّفاقية أوسلو، التي جاءت خنجراً في صدر المقاومة، أصبح زعماء فلسطين المُتنفِّذين لا يطالبون إلا بالحصول على ما بقي من أرض فلسطين؛ وهو القليل. بل إن منهم من ليس لديهم مانع من أن يكتفوا بأن يعود قسم من اللاجئين الفلسطينيين - لا كلهم - إلى فلسطين. وهكذا تَحَّولت منظمة التحرير من منظمة تطالب بتحرير الأرض الفلسطينية بكاملها إلى جماعة ترضى بما رضيت به أم الحليس، التي قال عنها الشاعر القديم:

أم الحُلَيْس لعجوزٌ شَهْرَبَه

تَرضَى من الَّلحم بعظم الرَّقبَه


لا أدري من سيكون منا حَيًّا ليشهد كتابة تاريخ ضياع فلسطين".
وفي الشهر التاسع من عام 2010م كتبت مقالة عنوانها: "النداء الأخير من القدس والأقصى". وهو عنوان سبق إلى وضعه الكاتب العربي عرفان نظام الدين في مقالة نشرها في صحيفة الحياة. ومما قاله في ختام تلك المقالة: "إنه النداء الأخـير من القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك لكل من يمـلك مُقوِّمات الشرف والإيمان، ولكل من تسري في عروقه دماء عربية وإسلامية. لا بل هو الإنذار لمن يسمع ويَتَّعظ".
وفي الشهر الثاني عشر من ذلك العام كتبت مقالة عنوانها: "تهويد فلسطين وإخلاؤها من أهلها". ومما قلته فيها:
في هذا العام بالذات تسارعت خطوات الصهاينة لإكمال تهويد فلسطين، كما اتَّضحت أكثر فأكثر خطوات إخلائها من سكانها بشتى الوسائل كالإصرار على يهودية دولتهم تمهيداً ماكراً لإجلاء العرب منها تحت مصطلح ما يُسمَّى بالترانسفير. وكل ما أشير إليه من تهويد فاضح يجري مدعوماً دعماً جَليّاً من الإدارة الأمريكية، التي انخدع من انخدعوا بألفاظ رئيس تلك الإدارة في خطاباته.. وها هي ذي زعاماتنا الآن تتوسل إلى الصهاينة بمختلف الإغراءات كي يعلنوا تجميد بناء المستوطنات)المستعمرات) في الضفة الغربية المحتلة لاستئناف المفاوضات بينهم وبين السلطة الفلسطينية؛ وهي تعلم - كما يعلم الكثيرون - أنها مفاوضات أثبت تاريخها، كما يثبت الواقع، أنها عبثية لم تفد - ولن تقود - إلا إلى مزيد من خضوع الفلسطيني المفاوض، واستسلام العرب الأذلاَّء المستكينين للأمر الواقع". والله المستعان.
أما الزاوية الثانية المتناولة لموضوع القدس؛ وهي جدوى التوجه إلى مجلس الأمن؛ أملاً أن ينصف المظلوم من الظالم، فالحديث عنها في الأسبوع القادم بمشيئة الله.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت