أحد لا يستطيع تحميل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة المسؤولية بانتهاكها لتفاهمات التهدئة التي كانت قائمة، فقد كانت إسرائيل هي المبادرة عندما قامت بتاريخ 9-3-2012 ،من خلال طائرة دون طيار، بإطلاق صاروخ على سيارة الأمين العام للجان المقاومة الشعبية زهير إبراهيم القيسي، واغتياله مبررة عملية الاغتيال بأن المعلومات التي كانت لديها تؤكد أن لجان المقاومة كانت تُعد لعملية كبيرة ضد إسرائيل، واصفة العملية بأنها كانت مُلحة وضرورية للأمن الإسرائيلي، غير أن عمليات الاغتيال تتكرر بين الحين والآخر، وكل مرة تحت ذريعة مختلفة لتستفز المقاومة بالرد، وتحويل الساحة إلى منطقة قتال ضارية بتوجيه مئات الصواريخ الفلسطينية على البلدات الإسرائيلية، وقيام إسرائيل بالمزيد من الغارات على القطاع، والمزيد من قتل الفلسطينيين، وتوتير المنطقة، ولابد هنا من القول بأن عملاء إسرائيل في القطاع، ما زالوا ينشطون لتوفير المعلومات عن تحركات القيادات الفلسطينية وتزويد إسرائيل بها، كما لابد من القول أيضاً بأن على كوادر المقاومة، وخاصة قادتها، المزيد من الانتباه واليقظة والحذر في تحركاتهم، إذ أن القيسي هو الشهيد الرابع للجان المقاومة الذين اغتالتهم إسرائيل، في الآونة الأخيرة.
من جهة أخرى، فإن طبيعة وعقلية إسرائيل الإرهابية، هي اللجوء إلى القوة، والمزيد من القوة والقتل، الذي يعتبر عملاً عدوانياً، وتنفيذ لاغتيالات دون محاكمة، بدلاً من الاستجابة لحقوق الشعب الفلسطيني، معتقدين بأن العنف والقوة ستقضيان على طموحات الشعب الفلسطيني، فإنهم مخطئون، كذلك فإن إسرائيل أرادت تجربة ما تسميه "بالقبة الحديدية" التي هللت لها كثيراً، لإسقاط الصواريخ المضادة قبل وصولها لأهدافها، فتبين أن فعاليتها محدودة، مع أن تكاليفها باهظة- يكلف إطلاق الصاروخ الواحد منها (315) ألف شيكل- فقد كلفت عملية الإطلاق الخزينة الإسرائيلية خمسة ملايين شيكل، مقابل تكاليف بسيطة للصواريخ الفلسطينية، وحسب المصادر الإسرائيلية، فقد أطلق الفلسطينيون (304) صواريخ، اعترضت "القبة الحديدية" (56) منها، أي أن نجاحها متدنٍ جداً.
هناك سؤال ملح: لماذا هذا التصعيد الإسرائيلي في هذه الأيام ضد غزة، مع أن الاحتلال الإسرائيلي لم يُوقف عدوانه الذي يتجدد بين الحين والآخر، وباعتقادنا بأن التصعيد هذه المرة يعود لمجموعة من الأسباب، منها عودة "نتنياهو" من لقائه بالرئيس الأميركي "باراك أوباما"، وتبجحاته بنجاح مهمته التي كانت مُكرسة للموضوع الإيراني، وأنه توصل إلى اتفاق كامل مع "أوباما" بهذا الصدد، واستمرار الاستعدادات والتهديدات الإسرائيلية ضد إيران، إلا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية، كشفت خداعه، وفشل مهمته في الحصول على ضوء أخضر أميركي لضرب إيران، وعاد بيدين فارغتين، "معاريف 6-3-2012"، فافتعل عملية الاغتيال، وهو يعرف أن المقاومة سترد عليها، وهدفه إبعاد أنظار الإسرائيليين عن فشل مهمته الأميركية وللتغطية على هذا الفشل، فإن من يتابع الإعلام الإسرائيلي لاحظ توقف التهديدات والحديث عن إيران خلال العمليات العسكرية.
المحرر العسكري لجريدة "يديعوت 11-3-2012"، "اليكس فيشمان"، اعتبر أن التصعيد العسكري الإسرائيلي كان مدبراً وليس صدفة، مما يؤكد ما ذهبنا إليه، فالجيش الإسرائيلي قام باستعدادات مسبقة، واستعد لهذا العدوان، ونصب بطاريات "القبة الحديدية"، وغطى سماء غزة بتشكيلة واسعة من مختلف أنواع الطائرات، غير أن المقاومة فاجأت القيادتين العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وأحدثت لها ارتباكاً، وأجبرت أكثر من مليون إسرائيلي الاختباء في الملاجئ، وعطلت الحياة والمصانع والمتاجر والدراسة هناك، فكيف لو شاركت حماس وبصواريخ أبعد لاضطر سبعة ملايين إسرائيلي إلى المكوث في الملاجئ، حتى أن الصحفي "روني شيكد" أشار بأن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية غير ناجحة، ودون فائدة، ولم يبق لإسرائيل ما تنجزه "هآرتس 13-3-2012".
ماذا يُفهم من قول قائد المنطقة الجنوبية العسكري بان إسرائيل قررت عدم الانجرار إلى الرد على الصواريخ الفلسطينية بغية منح فرصة لاستقرار التهدئة - يديعوت 14/3/2012 - بالتأكيد هذا يعني أن إسرائيل هُزمت في هذه الجولة، وأنها تريد التهدئة، وحسب الإعلام الإسرائيلي، فإنه لا وجود لحل لوقف إطلاق الصواريخ حتى إذا صمدت التهدئة، فأحد لا يعرف كم من الوقت ستصمد، ومتى تتجدد، فهناك في إسرائيل من يعتقد بأن الحل يكمن باجتياح قطاع غزة، بدلاً من حل القضية الفلسطينية، لكن المعارضين لعملية الاجتياح، بين الإسرائيليين، يقولون: وماذا لو نجحنا باحتلال القطاع، ماذا سنعمل به؟ فالقطاع مشكلة معقدة لم يرتح الإسرائيليون إلا عندما تركوه، فالعودة للقطاع ستجعل الإسرائيليين أهدافاً سهلة للقتل، ويسهل على المقاومة استنزاف إسرائيل
أما في موضوع التهدئة، فإن إسرائيل تريدها من جانب واحد، أي أنها حرة بانتهاكها متى أرادت ذلك، وأن الخلاف على تثبيت الهدنة واستمرار القصف المتبادل يعود لعدم استعداد إسرائيل لقبول التهدئة من الجانبين، فوزير المالية "يوفال شتاينتس"، أعلن بأن إسرائيل لن تلتزم بوقف الاغتيالات، ورئيس المكتب السياسي في وزارة الحرب الإسرائيلية الجنرال "عاموس غلعاد"- كما جاء في جريدة "هآرتس 13-3-2012"- أكد بأن إسرائيل لن تتعهد بوقف الاغتيالات كشرط للتهدئة، كما واصل عدد من الوزراء إطلاق التهديدات ضد الفلسطينيين.
"نتنياهو"، وللتملص من أصابع الاتهام الموجهة ضده، صعّد لهجته في جلسة الكنيست التي عُقدت بتاريخ "15-3-2012"، بطلب من المعارضة، متهماً إيران بالوقوف وراء التصعيد الأخير في غزة، بعد أن اتهمته المعارضة أنه فشل في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، فرد على المعارضة باتهام حزب كديما بإدخاله إيران لقطاع غزة، التي أصبحت قاعدة إيرانية أمامية، مدعياً أن انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 ساعد حزب الله على تشكيل قاعدة أمامية لإيران في لبنان، وليس هذا فقط بل أخذ يتبجح بأن إسرائيل دولة مستقلة وذات سيادة، تعتمد على نفسها فقط في الحفاظ على أمنها، وأنها حين قررت قصف المفاعل النووي في العراق لم تستأذن أميركا، وأن إسرائيل تمكنت من البقاء باعتمادها على نفسها، متجاهلاً المساعدات والدعم الأميركي المستمر، عسكرياً ومادياً وسياسياً، ولولا هذا الدعم لما قامت لإسرائيل قائمة أصلاً.
خسائر إسرائيل المادية في هذه الجولة القتالية كبيرة جداً، أما خسائرها البشرية فمحدودة، وما إطلاق الصواريخ الفلسطينية على مدن الجنوب إلا إثارة للذعر وترهيباً وليس القتل من أجل القتل، وبصراحة فإن إسرائيل لا تستطيع الصمود في مثل هذه الحالة، والتهدئة رغبة إسرائيلية أكثر منها رغبة فلسطينية، وكما قال المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس13-3-2012" "عاموس هرئيل"، في مقال له فإنه لم يبق لإسرائيل ما تنجزه في جولتها التصعيدية الحالية من سياسة الاغتيالات والتوتر، فالإحصائيات تؤكد أن قذائف "القبة الحديدية" كلفت حتى الآن "17.6" مليون شيكل، وأن تكلفة كل ساعة تحليق لطائرة حربية (98) ألف شيكل دون تكلفة الذخيرة التي تطلقها، وتكلفة كل ساعة تحليق لمروحية حربية (46) ألف شكيل دون الذخيرة التي تطلقها، وأن تكلفة كل قنبلة موجهة "جي.بي.اس" (25) ألف شيكل، ووفقاً لجريدة "يديعوت 14-3-2012"، فإن (16) صاروخاً من نوع "غراد" اخترقت الشبكة الدفاعية المسماة "القبة الحديدية"، فتصوروا كيف لو استمر هذا التوتر وتبادل الصواريخ، والحرب الاستنزافية المهلكة لإسرائيل، من هنا فإن مصلحة إسرائيل بالتهدئة تفوق مصلحة الفلسطينيين، فالتهدئة الحقيقية تتجلى بالسلام وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
التاريخ : 21/3/2012
المقال الأسبوعي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت