يوم الأرض: أوهام تتجدد وأخرى تتبدد

بقلم: ماجد الشيخ


في الواقع الذي ترسمه الدبابات والجرافات لإقامة المزيد من الأبنية الاستيطانية، تلاشت عمليا إمكانية إقامة حدود ترسم مسارا ومصيرا لدولتين، فقد بات "حل الدولتين" العتيد من الماضي، على الرغم من تشبث البعض بأوهام "استحقاقات" تفاوضية ممكنة في الحاضر، في ظل مستقبل غامض، تترسمه أخطار التهويد الشامل، من تهويد الوطن الفلسطيني، إلى محاولة تهويد الأرض قطعة قطعة، إلى تهويد "الكيان البديل" الصهيوني، وصولا إلى أكذوبة "دولة يهودية ديمقراطية" تحت مزاعم إمكانية قيامها على الضد من تاريخية الوجود الوطني الفلسطيني الذي تواصل ديموغرافيا وجغرافيا من تاريخ كنعاني سابق، عاش على أرض فلسطين ردحا طويلا من الزمن، زمن أطول كثيرا من وجود "عبراني" وتوراتي عابر، لم يعمر أكثر من ستة أو سبعة عقود لم يخلف آثارا يعتدّ بها، علاوة على أنها عقود ملأى بالأساطير والخرافات والأوهام التي ما يني يلوكها للأسف ليس صهاينة يعتدّون بتاريخ زائف، بل وآخرين لا يختلفون عنهم في مجال تزوير الوقائع، وجعل الأساطير والخرافات "حقائق لاهوتية دامغة"، لسرديات متخيلة لا علاقة لها بالتاريخ، أو بروح الفلسفة والثقافة التي احتضنتها هذه الأرض منذ الأزل.

وعلى الرغم من عقود الاحتلال الطويلة منذ العام 1948، فما زال المشروع الاستيطاني شرها للمزيد من الأرض، وتواقا للمزيد من تشريد اصحابها، ليس في الضفة الغربية والقدس فحسب، بل وفي العديد من مناطق الجليل والمثلث ومؤخرا في النقب؛ ولأهداف ليست استيطانية فحسب، بل ولأهداف سياسية واقتصادية، ترسم مصيرا مختلفا للوطن الفلسطيني، من حيث اقتطاعه بشكل كامل وقطع إمكانية اتصاله وتواصله في ما بين جزره التي عزلها الاستيطان، وباعد بينها ديموغرافيا وجغرافيا على حد سواء.

وما يجري ويتواصل في قرية العراقيب بالنقب، وتدميرها لأكثر من أربعين مرة وإعادة بنائها من قبل سكانها، لم يكن فجائيا، فمحاولات الاستيلاء على النقب وطرد سكانه منه، قديمة قدم الاحتلال الأول في العام 1948، وهي محاولات دائبة ومتواصلة، حتى لقد باتت مخططات الهدم معلنة، وتطرح في عطاءات لإجراء مناقصات لتنفيذ أوامر الهدم الصادرة عن حكومة الاحتلال. وصار اعتياديا تنظيم قسم التخطيط والهندسة في وزارة الإسكان، لجولات ميدانية في القرى العربية بالنقب، بمشاركة العديد من المقاولين، لتقديم مناقصاتهم،حيث جرى رصد ميزانيات كبرى لهذا الهدف، وذلك بغية استقدام مليون مهاجر يهودي لإسكانهم النقب، الذي يشكل حوالي 40 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية، ويقطنه قرابة 200 ألف فلسطيني، تسعى حكومة الاحتلال لطردهم وتركيزهم في ثماني بلدات، تحوّلت إلى مراكز للبطالة والفقر.

ما يحدث في النقب وفق د. ثابت أبو راس مدير مشروع عدالة في النقب، هو عملية ترانسفير ممنهجة، لكن الأخطر من ذلك هو ما تعرضه شرائح تشمل خرائط وصور جوية للوضع الحالي، وما يمكن أن يحدث في حال تم تطبيق قانون تحت مسمى "مخطط برافر"، حيث تسعى إسرائيل إلى تركيز عرب النقب في منطقة محددة (شرقي شارع رقم 40) وذلك لمنع أي إمكانية تواصل جغرافي وديموغرافي فلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة. لا سيما إذا ما علمنا أنه كان من المعوّل أن يكون هذا التواصل هدف اتصال غزة بالضفة الغربية في حال قيام الدولة الفلسطينية. وفي إحدى الوثائق التي كشف عنها موقع ويكيليكس فإنه سيتم اقتلاع 65 ألف مواطن بدوي من أراضيهم، الأمر الذي يعني هدم جميع القرى غير المعترف بها، وليس 30 ألفا كما تدعي سلطات الاحتلال.

وفي انسجام مع قطع تواصل واتصال الفلسطينيين داخل وطنهم، والرهان على فرض وقائع لا يعترف بها المجتمع الدولي، ما كشف عنه موقع "واينت" التابع لصحيفة "يديعوت احرونوت" الاسرائيلية (24 شباط)، وذلك تحت مسمى "خطة بينت" وهي الخطة التي يقترحها مدير عام ما يسمى "مجلس يهودا والسامرة الاستيطاني" في الضفة الغربية "نفتالي بينت" والتي تقضي بان تقوم اسرائيل بضم مناطق "سي" التي تشكل 60% من اراضي الضفة الغربية إلى سيادتها بشكل أحادي الجانب. ويقول بينت ان العالم لن يعترف بهذه السيادة، مثلما لا يعترف اليوم بسيادة اسرائيل على حائط البراق وعلى أحياء راموت وجيلو في القدس ولا يعترف بسيادة اسرائيل في هضبة الجولان، ولكنه سيعتاد على ذلك مع الوقت، كما يقول.

ووفقا للخطة التي امتدحها العديد من السياسيين الإسرائيليين، فإن الاراضي التي سيتم ضمها الى اسرائيل، وعلى العكس مما هو حاصل وسيحصل للأراضي الفلسطينية، ستشكل تتابعا جغرافيا اسرائيليا، وتشمل غور الاردن، البحر الميت، ارئيل، معاليه أدوميم والمستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية. وهكذا سيتمتع سكان القدس اليهود وتل ابيب وغيرها من مدن غوش دان بالأمن في وجه التهديدات التي تأتي من الشرق، كما يقول. الخطة تقضي ايضا بمنح 50 ألف فلسطيني يسكنون اليوم في المناطق "سي" الجنسية الإسرائيلية وهي بذلك لن تؤدي، على حد قول معدها، الى طرد أي فلسطيني من بيته. ويشير بينت إلى أن 350 ألف مستوطن إسرائيلي يسكنون في المناطق "سي" مقابل 50 الف فلسطيني. ويعتقد مُعد الخطة ان كل فلسطيني في الضفة الغربية يستطيع التنقل بحرية، بدون حواجز وذلك على ما يبدو عبر شبكة شوارع خاصة، تتطلب استثمارا لمرة واحدة بمئات ملايين الدولارات، من ناحية ثانية يقترح إحداث قطيعة تامة مع غزة؛ لكي لا تصدّر مشاكلها الى الضفة، التي تتميز بالهدوء على حد قوله، ويقترح ضم غزة بشكل تدريجي لمصر، وهو يعارض أيضا عودة لاجئين فلسطينيين بأي عدد كان.

وإضافة إلى هدف استبعاد "حل الدولتين" واضمحلاله، فإن ما يجري في الواقع يقارب موضوعة استكمال الاحتلال الاستيطاني لكامل الوطن الفلسطيني، ووفق خريطة التوزع الاستيطاني الحالي، فإنه يوجد الآن حوالي 35 نواة استيطانية في 22 مكان مختلف في كامل الأراضي الفلسطينية، من ضمنها مدينة عكا وبيت شان وسديروت وكريات شمونا ويرحيم، وإضافة إلى بؤر الخليل الاستيطانية المحروسة من قبل جنود الاحتلال، هناك عمليات بناء غرف إسمنتية تتواصل في مستوطنات الأغوار الشمالية شمال شرقي الضفة الغربية، حيث تم إضافة عدد من الغرف الإسمنتية في مستوطنة "مسكيوت" التي قامت قوات الاحتلال مؤخرا بتوسيعها بشكل كبير، في حين أن عمليات البناء في المنطقة الغربية من المستوطنة، لا زالت تتوسع على حساب أراضي المواطنين الفلسطينيين، الذين تم هدم مساكنهم وتهجيرهم منها.

وفي المدن خصوصا، كالقدس وعكا وحيفا ويافا وغيرها، ومنذ ثلاثين عاما، ما زال الفلسطينيون فيها يُمنعون من البناء، حتى أنهم يُمنعون من ترميم منازلهم، لتعلن عنها سلطات الاحتلال مباني خطرة! تطالب الناس بتركها دون توفير البدائل. وبالإضافة إلى ما يسمى "قانون أملاك الغائبين" المطبق بحق المواطنين الفلسطينيين، هناك قانون آخر مواز يمنع الفلسطيني من الإقامة الدائمة في منزله، أو في منزل مُستأجر، حيث أن القانون المجحف هذا يمنع المستأجر من تملّك المنزل، إذ عليه تركه بعد الجيل الثالث وتسليمه لـ "الدولة" التي تعمد إلى بيعه. ويستهدف قانون السكن الإسرائيلي هذا؛ إضافة إلى "عقارات الغائبين"، عقارات اللاجئين كذلك، تلك التي وضعت حكومات الاحتلال اليد عليها منذ بداية الاحتلال عام 1948، وهي تتحكّم بها منذ ذلك الحين، وها نحن نشارف على بلوغ الجيل الثالث، أي أننا سنشهد خلال الأشهر القريبة القادمة "استحقاق" إجلاء مئات العائلات الفلسطينية من عقاراتها أو من عقارات مُستأجرة، لا بديل لها سوى ممتلكاتها وأراضيها المحتلة.

ولا تقل مخططات تهويد عكا ويافا والقدس والرملة والنقب، وكل الأماكن المرشحة لتكون بؤرا استيطانية اليوم أو في الغد، عن مخططات التهويد الجارية اليوم على قدم وساق، والتي كثفتها حكومة الائتلاف اليميني المتطرف في انقلابها الثاني على الكثير من المسلمات التي أرساها الاحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية، في المرة الأولى عام 1948، كما وفي المرة الثانية عام 1967. وفي المرتين كانت الأرض هي محور مخططات الاستيلاء الاستيطاني، وكان الإنسان الفلسطيني هو محور الطرد الإحلالي من الأرض، وها هي مسيرة النكبة ومسار الانحدار يتواصلان، لا ليستقرا على حال، ولكن ليستمرا في تغيير أحوال ما كان لها أن تتغير، إلاّ بتغيير شروط وظروف مقاومة ومجابهة الاحتلال، ومواجهة مخططاته المتغيرة والمتلونة، في مسيرة تواصلها التي لم تعد تجد من يعمل، أو يواصل العمل بجدية مصيرية، على إيقافها ووضع حد لها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت