مسامير وأزاهير 281 ... إصرار على حـَلـْب ِ(ثور التسوية)!!.

بقلم: سماك العبوشي


لنعترف بادئ ذي بدء، بحقيقة مؤلمة تحز في النفس وتقشعر لها الأبدان، حقيقة لا تقبل الإنكار والدحض، مفادها أن السياسة الصهيونية كانت قد تميزت بوضوح الرؤيا وثبات الموقف على مر العقود المنصرمة، ولنعترف أيضاً - وليس في ذلك عيب بل العيب في ألا نرى حقيقة مواقف عدونا!!- بأن ساستهم وقادتهم وأولي أمرهم قد احترموا أهدافهم الموضوعة وأنهم لم يتوانوا طرفة عين عن تحقيقها وتنفيذ أجندة كان قد وضعها لهم أسلافهم، بعكس ما تتصف بها سياستنا نحن العرب عموماً والفلسطينيين خاصة وللأسف الشديد، تلك السياسة التي اتصفت بالتحجر الذهني وقلة التدبر والتخبط والتأرجح والتراجع المستمر، فكان من تداعيات تلك السياسة التنازل التدريجي عن سقف حقوقنا وثوابتنا الوطنية تحت مختلف الذرائع والحجج الواهية، ولعل آخر التخبط والمراوحة والتراجع المستمر ذاك التهديد الذي لوّح به الرئيس الفلسطيني محمود عباس بحل السلطة وإيقاف أوجه التنسيق الأمني مع حكومته من خلال رسالة بُشِّرْنا بإرسالها إلى النتن ياهو، فإذا بتلك الرسالة الموعودة قد خلت تماماً من ذاك التهديد والوعيد الفلسطيني الصريح خوفاً لشعرة معاوية الخاصة بجهود السلام ألا تقطع، إلا اللهـُمَّ من عبارات عتاب خجولة لا تغني ولا تسمن من جوع ويتكرر ذكرها في كل مرة تشعر فيها القيادة الفلسطينية بالإحباط والإحراج والخجل جراء تعثر جهود التسوية ومراوحتها في مربعها الأول!!.

يقال بأن الحر تكفيه الإشارة، وإشارتنا للأحرار قد لوحنا بها مراراً وحذرنا من عواقبها تكرارا، فالتعنت الصهيوني لم يكن وليد يومه، فهو مبدأ ثابت راسخ في العقلية الصهيونية منذ وطأت أقدام أسلاف النتن ياهو أرض فلسطين طامعين غاصبين سفاكين للدم الفلسطيني الطاهر، ولقد برز ذاك المبدأ للعيان أكثر فأكثر بعد اتفاقيات أوسلو وما تلاها من انطلاق مفاوضات عبثية انخرط فيها مفاوضنا الفلسطيني بكل همة وتصميم مقدما التنازلات تلو التنازلات على أمل الوصول إلى حلم إقامة دولة فلسطينية بحدها الأدنى (20% من الأرض التاريخية لفلسطين)، في وقت اعتاد عدونا الشره والماكر والخبيث على السؤال ( هل من مزيد!! )، ولقد أتهمت بمعاداة السلطة الفلسطينية ونهجها التفاوضي العقيم من خلال كثرة ما نشرت من مقالات قرعت من خلالها أجراس التحذير من التعنت الصهيوني وممارساته وصرخت ملء فمي بأن سياسة العدو الصهيوني ثابتة راسخة مادام العدو الغاصب الطامع لم يحقق كامل أهدافه الممثلة بتهويد كل أرض فلسطين وإجبار أبنائها على تركها لقمة سائغة لهم كما جرى للأندلس ذات يوم، ولقد كنت قد نشرت على سبيل المثال لا الحصر ومنذ أربع سنوات خلت مقالاً بعنوان "( ثور) المفاوضات...بلا حليب!!!"، شَبـّهـْتُ فيها المفاوضات وجهود التسوية بثور غليظ شرس يُراد حلبُه، ولقد أشرت في مقالي ذاك إلى ما كانت قد نشرته صحيفة الغارديان البريطانية من انتقاد صريح وواضح لتصرفات وممارسات العدو غير المسئولة والبعيدة كل البعد عن صورة المتمسك والمقتنع بنهج السلام المزعوم الذي طالما تبجحوا فيه، وها أنا ذا أعود اليوم لاستخدام ذات العنوان، في كتابة مقال أجتر فيه ما حذرت منه من مغبة الاستسلام والانبطاح والركوع للإرادة الصهيونية وتدليس راعي السلام الأمريكي، لنرى أن مأساة شعب فلسطين قد تفاقمت بعدما مرت أربعة أعوام على تقرير صحيفة الغارديان الذي أعده توني أولولين من القدس وإيان بلاك من لندن، وأن قضية فلسطين العادلة ما تحركت قيد أنملة ولم تبارح مربعها الأول، بل على العكس من ذلك تماماً، فالعدو قد رسخ أقدامه، وعم المشهد الفلسطيني الفوضى والتشرذم والتناحر!!.

لقد قلناها مراراً وتكراراً دون أذن تصغي لما نقوله ونحذر منه، أن لا سلام يرتجى مع من جاء ليسرق ويشَرِّد ويستوطن ويهوِّد، وأن السعي الحثيث خلف تسوية مهلهلة انطلق قطارها من أوسلو والجلوس إلى مائدة مفاوضات مع الجانب الصهيوني ما كان إلا عبثاً وضحكاً على الذقون، وأنها كانت تعطيلاً لجهد واقتدار وفعل أبناء فلسطين الغيارى الساعين لنيل حقوقهم السليبة، وأنها كانت بحق ملهاة قد جرنا إليها العدو الصهيوني بخبث ومكر وبتدليس غربي وتواطؤ وتخاذل أنظمة عربية مهين بقصد تمييع القضية وزرع حالة من اليأس والقنوط وترسيخ أقدام الصهاينة على أرض فلسطين بعد قضم تدريجي لها واستيطان متواصل ومستمر، يتزامن وتهويد مقدساتنا وزرع الفتنة بين نهجين فلسطينيين، أحدهما مع التسوية والأخر رافض لها!!.

تناقض غريب ومفضوح غير مسبوق ذاك الذي نراه ونتلمسه من مواقف وردة فعل قادة السلطة الفلسطينية، فبرغم اعترافهم الصريح بانسداد أفق التسوية وبجمود المفاوضات وعبثها، وإحباطهم لتسارع عمليات الاستيطان الصهيوني، وعدم جدوى جهود الرباعية، إلا أنهم يصرون على نهج خطى التسوية في تحقيق حلم إقامة دولة فلسطين دون أن يطرقوا باباً آخر أكثر ذي جدوى ومنفعة!!، إقرأوا ما جاء على لسان الرئيس الفلسطيني بالأمس، ولا تعجبوا لو أن قطار التسوية والمفاوضات عاود السير من جديد بذرائع وحجج ما أنزل الله بها من سلطان:
1. "نحن في وضع محبط جدًا، فالاستيطان تصاعدت وتيرته، وأصبح هناك تكثيف له في كافة الأرض الفلسطينية، وخاصة في مدينة القدس، والآن أصبح بشكل شرس جدًا"!!.
2. "لقد طالبنا الجانب الأمريكي بالتدخل ولم يتوقف الاستيطان، واللجنة الرباعية تكتفي بإصدار بيان يدعو الطرفين إلى العودة للمفاوضات، حتى المواطن العادي لم يعد يرى إمكانية تطبيق حل الدولتين جراء تكثيف الاستيطان في الأرض الفلسطينية"!!.


العجب كل العجب ... لمن تخلى عن خيار المقاومة التي شرعتها الديانات السماوية كافة وارتضي لنفسه أن يكون عداءاً للماراثون خلف وهم السلام المزعوم مع دولة البغي والصلف والعدوان، وراح يسعى جاهداً من أجل فرض رؤيته السياسية وخياره في لجم وتحجيم ما تبقى من فعل مقاومة، ثم يأتي مولولاً باكيا نادباً حظه بتعثر جهود التسوية مع عدو طامع غاشم لا يحترم صاحب الحق لضعفه ولا ينصاع لإرادة دولية، ساعياً لتحقيق مآربه وأطماعه، تماما كما فعل الدكتور واصل أبو يوسف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في حديث لغرفة تحرير وكالة "معا" حيث انتقد أداء اللجنة الرباعية وهزالة موقفها واكتفاء بياناتها بالدعوة للعودة إلى اسطوانة المفاوضات المشروخة، وأن الرباعية لم تستطع فتح أي مسار سياسي في المنطقة منذ نشأتها، ولم تتحدث عن كيفية الوصول للدولة الفلسطينية، ولم يكن هناك دعوة صريحة منها لوقف الاستيطان والعدوان الصهيوني المستمر!!.



وأتساءل ... ما الذي يجبر قيادة فلسطين على التشبث بخيار يعرفون عدم جدواه وفشله، أما الأجدر بهم أن يقرعوا أبواباً كانوا قد أغلقوها بوجه أبناء شعبهم وزجوا بهم في المعتقلات كرمال عيون التسوية العبثية وخوفاً على جهود سلام لا تعترف به "إسرائيل"!!.

أشك كثيراً أن قادة منظمة التحرير الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية لم يفطنوا من قبل لأدبيات الكيان الصهيوني، ولم تصل إلى أسماعهم عبارات ساسة يهود منذ نكبة فلسطين عام 48 وحتى يومنا هذا والتي تحدثوا فيها عن طموحاتهم وأحلامهم ومشاريع توسع كيانهم الغاصب، وإلا وبخلاف ذلك فما على قيادتي منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية الموقرتين إلا أن تتفضل بقراءة وتدبر التاريخ الصهيوني جيداً، وأن تتمعن جيداً في أدبيات سياستها الموضوعة منذ عقود خلت، لتدرك حجم الوهم الكبير الذي سعت وتسعى من اجله من خلال جهود ما يسمى بالسلام ومفاوضات الحل النهائي، كي تتيقن بأنها سعت وتسعى خلف سراب إقامة دولة فلسطينية وفق الكيفية التي تجري الآن، وليكون قرارها القادم أكثر واقعية وانسجاماً مع مخططات العدو وأهدافه، فإذا كان الهدف من تشبث الجانب الفلسطيني بإحياء المفاوضات مع حكومة النتن ياهو إيقاف الاستيطان، فها هو بن غوريون بعد انتكاسة العرب في حزيران 1967 يعلن وأقتبس: "لقد استولينا على القدس واستعدناها، ونحن اليوم في طريقنا إلى يثرب" ، وتلك لعمري هي أطماعهم وتلك هي غايتهم، فهل سيعطي القدس والضفة الغربية من كان حلمه الوصول إلى يثرب!؟، ثم كيف يرتجي قادة م ت ف والسلطة الوطنية الفلسطينية بإمكانية تحقيق فكرة السلام وإقامة دولة فلسطينية فيما حدود الكيان الصهيوني قابلة غير واضحة المعالم وهي قابلة للتوسع لتمتد بين الفرات والنيل كما جاء على لسان مناحيم بيجن يوماً وأقتبس: "لن يكون سلام لشعب إسرائيل، ولا في أرض إسرائيل، ولن يكون هناك سلام للعرب- أيضا- ما دمنا لم نحرر وطننا بأكمله (من النيل إلى الفرات)، حتى ولو وقعـّنا مع العرب معاهدة الصلح"!!، وأين ستكون دولة فلسطين الموعودة إذا كانت أجندتهم وفلسفتهم الصهيونية تنطلق من فكرة القضم والتوسع والاستيطان، وأن حدودهم غير ثابتة وأنها حيث تطأها أقدامهم كما جاء على لسان الشمطاء غولدا مائير وهي تخاطب الجيش الصهيوني بتاريخ 10/7/1969 وأقتبس نصاً: "إن الآخرين لم يحددوا، ولن يحددوا حدودنا، إذ أنه، في أي مكان تصلون إليه وتجلسون فيه، يكون هو حدودنا"، ولقد قلناها في مستهل مقالنا ونكررها مرة أخرى، بأن السياسة الصهيونية كانت قد تميزت وعلى مر العقود المنصرمة بوضوح الرؤيا وثبات الموقف، ولنعترف أيضاً - وليس في ذلك عيب بل العيب في ألا نرى حقيقة مواقف عدونا!!- بأن ساستهم وقادتهم وأولي أمرهم لم يتخلوا يوماً عن تحقيق وتنفيذ أجندة كان قد وضعها لهم أسلافهم، وبأنهم لن يحيدوا عما مرسوم لهم!!، فإذا كان "الإسرائيليون" معنيين بالمفاوضات حقاً، فإن إحياءها من وجهة نظرهم يتمثل بتحقيق هدف الاستيلاء على أراض فلسطينية جديدة. وترسيخ أقدامهم عليها وجعلها أمراً واقعاً لا ارتداد عنه!!.

إن سعي ساستنا وأولي أمرنا من العرب والفلسطينيين والجري خلف تسوية مهلهلة مع العدو الصهيوني، فإنهم بذلك سيكونون كمن يتراكضون خلف ثور شرس عنيف واضح المعالم لا لبس فيه بقصد حلبه والانتفاع من حليبه، متناسين متغافلين تماماً ومتجاهلين أن جهود الدبلوماسية لوحدها لن تحل قضية فلسطين ما لم تتزامن مع وسائل ضغط فعالة ناجعة تتمثل:
1- بتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية وإحياء بنود ميثاقها المعطل والمجمد، لتكون خيمة كبرى تتسع لكل الفصائل والحركات السياسية الفلسطينية.
2- برص الصف ووأد التناحر ووحدة الكلمة والعمل المشترك ذي النهج الستراتيجي الذي تتبناه كل الفصائل والحركات السياسية الفلسطينية، بما يزعج العدو ويربك له مخططاته ويقتل عنده روح الصلف والغطرسة والفرعنة السياسية!!.
3- بتفعيل دور أبناء فلسطين وإطلاق جهدهم البطولي من عقاله في مقاومة المحتل.


مسك الختام ومربط الفرس ...
سُئل حكيم يوماً: من أسوأ الناس حالا؟ فأجاب دون تردد : من قويت شهوته .. وبعدت همته.. وقصرت حيلته .. وضاقت بصيرته، وسئل حكيم: بـِمَ ينتقم الإنسان من عدوه.....؟، فأجاب قائلاً: بإصلاح نفسه، ولا غبار أن تكون إجابة هذا الحكيم إذا ما سئل يوماً: بم ينتقم المرء من نفسه فيقول: إذا ما ترك المرء نفسه لهواها وضعفها وجشعها وقلة بصرها.

والحليم تكفيه الإشارة!!.

سماك العبوشي
8/4/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت