وجاء الانقلاب العسكري الثالث بعد أربعة أشهر، ففي يوم الاثنين 19 ديسمبر (كانون الأول)1949 بقيادة الزعيم أديب الشيشكلي الذي أطاح بنظام الحناوي ، واكتفى الشيشكلي بنفيه إلي لبنان دون أن يُلحِق به أذى ...ولكن الحناوي اغتيل في لبنان ثأريا . ثم قدَّم العقيد أديب الشيشكلي ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية وفاز به دون منافس ، وتم له تسلم منصب رئيس الجمهورية في 19 يوليو(تموز)1953 وقام بتشكيل وزارة جديدة برئاسته... ولما اطمئن لوضعه السياسي ولاستقرار البلاد , أطلق الحريات العامة ، ورفع حالة الطوارئ , وفتح أبواب المعتقلات , وأغرى القيادات الحزبية بتشكيل الأحزاب وعودة من كان خارج البلاد للمشاركة في الحياة السياسية . ورفع شعار سوريا بلد السوريين . فعاد إلى دمشق زعماء وأقطاب حزب البعث العربي الاشتراكي ...ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني ، قادمين من روما . ولم يدم الاستقرار طويلا إذ عصفت بالبلاد معارضة شديدة تمثـلت بالقيادات الحزبية السياسية والاجتماعية , التي انتقدت العقيد أديب الشيشكلي , فضمت هذه المعارضة أحزاب : الشعب والوطني والبعث العربي الاشتراكي وجماعة الإخوان المسلمين والشخصيات المستقلة ، يشاركهم الحزب الشيوعي .
حينئذ قرر الشيشكلي مواجهة الموقف والتصدي للموجات التحريضية الصاحبة بإعلانه الأحكام العرفية مرة ثانية . وتسلمت القيادات العسكرية السلطة في المحافظات والمدن والأرياف وجرت اعتقالات كثيرة في صفوف المعارضة . وفـُرضت الإقامة الجبرية على الرئيس هاشم الأتاسي باعتباره ما زال يتمتع بمنصب رئيس الجمهورية غير المستقيل , رغم انتخاب الشيشكلي رئيسا للجمهورية مما أوجد في البلاد رئيسين للجمهورية السورية في أن واحد . كما فـُرضت الإقامة الجبرية على زعيم الثورة السورية سلطان باشا الأطرش في جبل الدروز (جبل العرب) . فكان ذلك مدعاة لعقد مؤتمر سياسي كبير في بيت عبد الله فركوح ؛ أحد أقطاب الحزب الوطني في حمص ؛ برعاية الرئيس هاشم الأتاسي . شارك في هذا المؤتمر عدد كبير من رجالات الأحزاب السياسية وقيادات المجتمع المدني , وانبثق عنه تشكيل جبهة وطنية لتنظيم إدارة النضال الوطني ضد الحكم (الديكتاتوري) الذي انتهجه الرئيس الشيشكلي .
واندلعت الشرارة الأولى للثورة على حكم الشيشكلي في جبل الدروز(جبل العرب) حيث شهـد مظاهـرات عارمة انطلقت من منزل قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش ، وطالبت بالإطاحة بنظام الحكم والتخلص من رئيسه , وهذا ما دفع الشيشكلي إلى إصدار أوامره لقيادة اللواء السادس في 27يناير (كانون الثاني) 1954 بالتوجه إلى جبل الدروز لإخماد المظاهرات وقمع المتظاهرين واعتقال الزعامات والقيادات التي وراء هذه الأحداث ولعدد من آل الأطرش المناوئين لنظامه وعلى رأسهم زعيم الثورة السورية سلطان باشا الأطرش الذي تمكن من دخول الأراضي الأردنية ومعه عدد من المسلحين طالبين اللجوء السياسي فيها.
وفي صباح الخميس 25 فبراير(شباط) 1954 انفجر الموقف في حلب ضد حكم الشيشكلي بقيادة العقيد فيصل الأتاسي قائـد منطقة حلب ، وأذاع الثوار بيانا من إذاعة حلب أعلنوا فيه انفصال المنطقة العسكرية الشمالية عن حكومة دمشق , وطالب البيان باستقالة الشيشكلي ومغادرته البلاد فورا حقنا للدماء السورية .
ويشير المؤرخ الصحفي الأستاذ مطيع النونو في كتابه (شاهد على التاريخ في القرن العشرين) أن الزعيم أديب الشيشكلي كان باستطاعته القضاء على حركة التمرد والعصيان التي انتفضت ضده , وكان قادرا على استرداد سلطته وسحق الانفصاليين ، لأن القيادة العسكرية بدمشق تحت إمرته وكذلك كان أنصاره ومؤيدوه أكثر عددا وأقوى تسليحا من الفئة المناوئة له ولحكمه . ويروي الأستاذ مطيع النونو في كتابه أن الشيشكلي اجتمع بأعضاء حكومته وقيادات جيشه واستشارهم في الأمر فأشاروا عليه بالصمود والتصدي , فهم الأقوى والأقدر على إخماد نار الانقلاب والقضاء على الخارجين عليه بالقوة مهما كلف ذلك من تضحيات. ولكن الزعيم الشيشكلي – برغـم سلطانه وسلطاته وبرغـم كثرة قواته ونوعية تسليحها , وبرغـم جبروته وطغيانه – لم يقتل ولم يدمر ولم ينشر قطعان الشَّبـِّيحة والزعران لقتل الأبرياء أو لهتك أعراض العربيات السوريات الماجدات أو لاغتصاب الشرف العربي أو لتمريغ الكرامة العربية في الأوحال ، بل نرى الزعيم أديب الشيشكلي يسطر أنبل المواقف الوطنية على صفحات التاريخ ، يتجلى ذلك في تركه الحكم لمن يختاره الشعب ، وآثر الرحيل عن البلاد حرصا منه على عدم إراقة الدماء ¬¬– (دماء الشعب السوري...يا بشار!) – بسبب انقسام الجيش بين مؤيد ومعارض ، فقرر عدم مواجهة الأمر بالحزم العسكري , وقدم استقالته خطيا لرئيس المجلس النيابي آنذاك الدكتور مأمون الكزبري وبحضور أعضاء اللجنة الدائمة للمجلس النيابي والوزراء , وأذيع كتاب الاستقالة بعد ذلك من إذاعة دمشق الذي نورد نصه بعد قليل . وخرج أديب الشيشكلي من حكم البلاد وغادر دمشق مرفوع الرأس برصيد وطني ، معتزا بقراره الحكيم الذي توَّجه بإكليل الوطنية , فعصم الجرح السوري من النزيف ، وداوى صداع الرأس قبل أن يتصدع كل الجسد ويتهاوى البنيان . وتوجه إلى بيروت ومنها إلي العربية السعودية ثم إلى البرازيل للإقامة فيها . (فهل تفهم ...يا بشار!).
والى القارئ الكريم نص كتاب استقالة الزعيم أديب الشيشكلي كما ورد في كتاب الأستاذ الصحفي مطيع النونو الذي عاصر تلك الفترة وواكب أحداثها فأرخ لها خطوة خطوة . " أيها الشعب الكريم : حقنا لدماء الشعب الذي أحبه , والجيش الذي أفتديه , والوطن الذي أردت أن أفديه بتجرد وإخلاص , أقدم استقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري العزيز , الذي انتخبني ومنحني ثقته الغالية , راجيا أن يكون في ذلك خدمة لبلادي , سائلا الله أن يقيها كل مكروه , وأن يحقق وحدتها ومنعتها , وأن يأخذ بيدها إلى قمة المجد والرفعة " .
بشار: أرأيت كيف يكون الرجال الأبطال ؟ أرأيت كيف يكون الزعيم زعيما ؟ وكيف يكون الرئيس رأس الحكمة ؟ ليتك تتعلم معنى الوطنية وحب الوطن !. بشار: هل تفعلها حرصا على وحدة البلاد وحرية العباد ؟. هل تفعلها وتستقيل تاركا الحكم لمن يختاره الشعب كما فعلها الزعيم أديب الشيشكلي حقنا لدماء الشعب وحفاظا على كرامته وصونا لوحدته ووحدة أراضيه ؟... لقد طال انتظارنا ونحن نترقب صوتك عبر أثير الإذاعات.... ولكنك تأخرت كثيرا عن الكلام ، فهل نسمع قريبا يا بشار خبرا آخر يهدئ الخواطر ويكفكف الدموع ويشفي غليل سورية شعبا وأرضا ؟ .*
الكاتب الصحفي / عبد الحليم أبوحجّاج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت