لقد انتج الانقسام شرخا عميقا لم تعهده المسيرة السياسية الفلسطينية من قبل مما ادى الى انهيار منظومة القيم الوطنية والثقافية التي تربى عليها جيلا كاملا عاصر مرحلة الكفاح الوطني التحرري ، ثم اضحت الثوابت والمحرمات عرضة للتجاذبات السياسية تباع وتشرى على موائد اللئام الذين لا هم لهم سوى توظيف القضية الفلسطينية في خدمة الاجندات الخاصة ، بينما يدفع الانسان الفلسطيني اثمان باهظة من رصيد مشروعه الوطني الذي تراجعت مكانته الى حد التكشيك بمقدرة القوى المحركة التي تقود العملية الوطنية ان كانت تستطيع الوصول الى شاطئ الحرية والاستقلال ، اذا استمر الوضع الراهن على ما هو عليه ، الذي وفر فرصة ذهبية للاحتلال لم يكن يحلم بها لتنفيذ مخططاته الشيطانية في مقدمتها تسريع وتائر الاستعمار الاستيطاني بشكل لم يسبق له مثيل بالتوازي مع اجراءات تهويد القدس وتغيير ملامحها وانتهاك مقدساتها وانفلات قطعان المستوطنين بدعم مباشر من جيش الاحتلال ضد البشر والشجر والحجر ، يأتي ذلك كله في ظل العجز عن رسم سياسة مواجهة للمخططات الصهيونية الرامية الى اسقاط الحقوق الوطنية والسياسية والتاريخية من خلال فرض الامر الواقع الذي يختزل هذه الحقوق الى مقومات بلدية منزوعة الصلاحيات .
لا نأتي بجديد اذا قلنا ان الادارة الامريكية الراعية الحصرية لعملية التسوية قد تراجعت عن وعودها السابقة حول رؤيتها للحل الذي يقوم على اساس " دولتين لشعبين " كما تدعي حيث تعمدت منذ البداية عدم تحديد ماهية رؤيتها تلك ، بالاضافة الى تجاهل السقف الزمني المطلوب مرات عديدة ، ربما يكون البعض قد افرط بالتفاؤل عن امكانية توازن الدور الامريكي في تلك الفترة ، اي فترة مجيء الرئيس الحالي اوباما الى سدة الحكم ، ولكن بالقياس الى مسالة التحالف الاستراتيجي مع كيان الاحتلال فان الموضوع هنا لا يتعلق بالرئيس القادم او المغادر بل بثوابت السياسة الامريكية تجاه اسرائيل بغض النظر عن الحزب الذي يفوز بالانتخابات ، لذلك لا يستطيع اي كان تجاهل هذه الحقائق وبالتالي كان الرئيس اوباما سيجد نفسه عاجلا ام آجلا داخل عربة قطار اللوبي الصهيوني على السكة نفسها ، بل يتوجب عليه ان يبذل كل ما بوسعه من جهد وسخاء لو اراد العودة الى البيت الابيض مرة اخرى موصوما بطابع رضا ذوي النفوذ المتحكم بمجريات الامور في الولايات المتحدة ، وقد حصل فعلا وقولا على شهادة حسن السلوك واصبح يقف على يمين حكومة نتنياهو المتطرفة بدرجة افضل رئيس امريكي صديق لاسرائيل ، فهل لا زال بعضنا يعول على امكانية حل عادل متوازن ترعاه امريكا ، يعيد لنا الحقوق من خلال المفاوضات التي تجاوزت عشرين عاما دونما جدوى ؟
لا شك ان هناك اجماع يفضي بأن العام الحالي الذي انطلقت به الحملة الانتخابية الامريكية لا يحمل في ثناياه اي دور امركي يتعلق بموضوع التسوية بل على العكس من ذلك فهي حريصة كل الحرص على عدم اغضاب اسرائيل ونيل رضاها وقد تجلى ذلك بوضوح شديد في الامم المتحدة واستخدامها حق النقض الفيتو بمنع ادانة الاستيطان مخالفة بذلك الاجماع الدولي كما وقفت ضد تقديم طلب الحصول على العضوية الكاملة لفلسطين في الامم المتحدة وتحاول ممارسة الخداع مرة اخرى لفرض تأجيل التحرك الفلسطيني من جديد عبر المؤسسات الدولية الى ما بعد الانتخابات الامريكية ، الامر الذي يتطلب نقل الملف الفلسطيني برمته الى الامم المتحدة من خلال عقد مؤتمر دولي خاص بالقضية الفلسطينية يرتكز على قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية .
ان التحركات السياسية الراهنة لاتتعدى كونها ادارة ازمة وقد اتضح جليا ان مجموعة الرباعية الدولية لا تملك من امرها شيء ، حيث تتساوق نهاية المطاف مع السياسات الامريكية المنحازة الى اسرائيل ، حتى تدعوا الى استئناف المفاوضات التي توقفت بفعل تعنت سلطات الاحتلال ، متجاهلة بذلك المواقف التي اصدرتها نفسها عن ضرورة وقف الاستيطان وتحديد مرجعيات عملية التسوية وبالتالي اثبتت فشلها الذريع تجاه الدور المنوط بها ، بل ذهبت الحكومات الاوروبية الى منع المتضامنين الاوروبيين في التعبير عن وقوفهم مع حقوق الشعب الفلسطيني رضوخا لطلب حكومة الاحتلال .
ثمة من يراهن على المتغيرات الجارية في المنطقة العربية التي تحتاج الى وقت طويل لانجاز الاهداف الوطنية والديمقراطية من اجل تحقيق مكاسب ضيقة اثر صعود التيارات والاحزاب الاسلامية في العديد من الدول العربية بالانتخابات التشريعية او التنفيذية مع الاشارة بأن هذه الاحزاب لا يعود لها الدور القيادي بالثورات الشعبية وكانت نتيجة عقود من الظلم والقهر والحرمان والاستبداد الذي ادى الى انتفاضات شعبية في العديد من العواصم العربية .
لعل المتابع للشأن العام لاحظ بشكل لا يقبل التأويل كيف قدمت الاحزاب والقوى الاسلامية اوراق اعتمادها امام العالم المتنفذ حيث اكدت التزامها بالاتفاقيات الموقعة مع اسرائيل بينما كانت تعيب على الاخرين المفاوضات معها ولم تجد مفردات الا واستخدمتها تبدأ بالتكفير ولا تنتهي عند حد التخوين من اجل الوصول الى السلطة والنفوذ ، لذلك لا ينبغي ان يتوهم الاخرين في فلسطين بأن شيئا قد يتغير الا اذا سلكوا نفس السلوك الذي اوصلهم الى السلطة وفي كل الاحوال كان لهم شرف البداية عندما ادركوا ان الجمع بين متطلبات السلطة والمقاومة امران لا يلتقيان .
ان استمرار الانقسام والاصرار على بقائه او محاولات ادارته لا يمكن النظر اليه بعد الان من زاوية حسن النوايا بالقول عفا الله عما سلف بل يتطلب الوقوف الجاد المسؤول امام هذه الظاهرة الخطيرة بكونها تخدم بشكل مباشر مخططات الاحتلال وتلبي مصالحه الاستراتيجية ، وبالتالي لا بد من وضع الامور في اطارها الصحيح واتخاذ كل ما يلزم من اجراءات لاسقاط الانقسام على طريق انهاء الاحتلال ، من خلال عقد مؤتمر شعبي او اكثر ترعاه منظمة التحرير الفلسطينية وتشارك به كافة القوى والشرائح الاجتماعية في الداخل والخارج لرسم سياسة فلسطينية مروسه بعناية تستند الى الثوابت والحقوق وتكون نتائجه ملزمة للجميع عبر عملية ديمقراطية تعيد الهيبة والمكانة للقضية الفلسطينية ، على الطرف الذي يرفض الاستجابة للمكالب الشعبية تحمل كافة النتائج المترتبة على ذلك .
لكل شيء وقت ولم يعد لدينا وقت اضافي ....
عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الفلسطينية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت