«إسرائيل» والمسارب المظلمة

بقلم: علي بدوان


تعيش «اسرائيل» في اللحظات الراهنة حالة من الحراك الجاري في صفوف بعض قطاعات النخب والأنتلجنسيا «الاسرائيلية» المتأثرة بحال مابات يُعرف بالربع العربي، حيث تسود الأسئلة المصيرية، والأسئلة ذات البعد الاستراتيجي دون أن يصل طارحوها لاستنتاجات قاطعة بشأن مستقبل الدولة العبرية في المنطقة على ضوء عالم جديد، سمته الرئيسية أنه عالم متغّير، وهو مازاد من منسوب القلق والحيرة حتى لدى بعض صناع القرار في «اسرائيل» من قادة الفكر والسياسة والأمن والعسكرتاريا.

ولكن، الآن وبعد عقود من عمر الدولة «الاسرائيلية» الصهيونية فان التحولات التي تحكُمها صيرورة الأشياء وقوانين المجتمع (علم الاجتماع) وعلم التاريخ، أصبحت تفصح عن نفسها، وتحديداً بعد التطورات الكبيرة التي عصفت وتعصف بالمنطقة وبمسار التسوية المعطل على مختلف المسارات التفاوضية وخصوصاً منها المسار التفاوضي مع الطرف الفلسطيني. فكيف نقرأ تلك التحولات الجارية في «اسرائيل» وماهي آفاق المرحلة التالية على صعيد الدولة العبرية ووجودها في المنطقة ...؟

الجيش السوبرمان

شكّلت الهجرة الاستيطانية التوسعية الاجلائية اليهودية إلى فلسطين العماد الرئيس للمشروع التوسعي الكولونيالي الصهيوني. فبدأ المشروع الصهيوني أولى خطواته، في إقناع اليهود بالهجرة من أماكن وجودهم الأصلية إلى فلسطين، وهي العملية التي توقفت عليها عملية رفد وبناء الكيان الصهيوني بالطاقة البشرية من اليهود، والتي كانت بدورها أيضاً الهدف الأساسي لجهة اجتذاب مزيداً من المهاجرين اليهود لتحقيق التفوق الديموغرافي المطلق على العرب الفلسطينيين في أرضهم وعلى حساب حقوقهم الوطنية والقومية، فاستلهمت الحركة الصهيونية العالمية شعارات تيودور هرتزل، وتلاميذه، ومنها الشعارات التي قامت عليها فلسفة البناء الصهيوني وفق قاعدة «عبرية الأرض والعمل» بينما خطت أوربا الغارقة آنذاك في حروبها الاستعمارية طريق الخلاص من يهودها عبر إحلال منطق التصدير، وخلق بؤر دائمة الاشتعال في العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط.

وتبعاً لذلك استطاعت الحركة الصهيونية بالتحالف مع بريطانيا والغرب عموماً في لحظات تاريخية طارئة، من إنشاء الدولة العبرية في أيار عام 1948، أي بعد واحد وخمسين عاماً من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، ونجح قادة الحركة الصهيونية من اجتذاب (650) ألفاً من يهود العالم عبر عدة موجات هجرة لليهود من دول العالم باتجاه فلسطين، مستغلين الظروف السياسية السائدة في دول الشرق وغرب أوروبا وبعض دول الشرق الأوسط. وعليه، شكلت الهجرة اليهودية الاستعمارية إلى فلسطين، المورد الأساسي المطلوب لتوفير القاعدة السكانية الضرورية لإقامة وتنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين، ولاحقاً لتعزيز هذا الوجود السكاني، ورافق هذا التوجه الصهيوني محاولات إنشاء اقتصاد صهيوني قوي حتى يكون عامل جذب قوي ليهود العالم إلى فلسطين المحتلة، هذا جنباً إلى جنب، مع مصادرة مزيد من الأراضي الفلسطينية وطرد ما أمكن من سكانها العرب الفلسطينيين لتحقيق التفوق الديموغرافي من خلال الترانسفير الصهيوني المنظم، فضلاً عن إنشاء جيش صهيوني قوي لحماية الإنجازات التي حققتها الحركة الصهيونية ووليدتها إسرائيل فيما بعد.

ان الجيش (السوبرمان) الذي سعت وعملت الحركة الصهيونية على بنائه، واستطاع ان يخوض الحروب الكبرى لدولة اسرائيل في مواجهة العرب ككل، بات الآن مكبلاً بحدود معينة ونسبية، ولايقوى على لي عنق الوقائع على الأرض بعد هذا الصمود الكبير للجزء المتبفي من الشعب الفلسطيني داخل المناطق المحتلة عام 1948 وفوق الأرض المحتلة عام 1967 .

لقد شهدت ومازالت الحياة السياسية والفكرية «الاسرائيلية» الصهيونية نقاشاً محتدماً يتعلق بمصير الكيان الصهيوني ومستقبله كالنقاشات الحالية الجارية منذ سنوات خلت داخل الأحزاب والنخب العسكرية والسياسية، وتحديداً منذ انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية العام 1987، فقد أمسى الحديث عن مستقبل «كيان إسرائيل» عنواناً حاضراً بشكل استثنائي لأول مرة وسط كل مظاهر القوة والبطش والغطرسة التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وعموم المنطقة. حيث بات الكثير من اليهود يعتقدون أن مستقبل إسرائيل ومكانها في الشرق الأوسط أصبح على محك التساؤلاتً كما لم يكن لعدة أجيال، ولسان حالهم يقول : هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة؟ وبأي ثمن؟ وبأي هوية؟ وهل يمكنها أبدا أن تعرف السلام ؟.

أسباب في مواقف النخب

ومن الطبيعي القول إن مرد هذا الانتقال في منحى التفكير المستقبلي عند النخب «الاسرائيلية» الصهيونية يعود لجملة من الأسباب المنطقية التي فرضت نفسها على أرض الواقع. فالثقة بمستقبل «إسرائيل» تتراجع الآن في صفوف قطاعات هامة من الأنتلجنسيا والنخب «الاسرائيلية»، بالرغم من التناقض الظاهري بين قوة آلة «إسرائيل» العسكرية والمخاوف على مستقبلها، ففي حين أن الآلة العسكرية «الاسرائيلية» نفسها اقوى من أي وقت مضى، فان ديناميات التحولات الجارية في المنطقة لجهة مايجري في بلدانننا من حراكات وهبات وثورات شعبية، ونهوض الشعب الفلسطيني وثباته فوق أرضه جعل من فكرة «إسرائيل» ومستقبلها عرضة للسقوط أكثر من أي وقت مضى منذ خمسينيات من القرن الماضي.

وعليه ليس غريباً أن يقول واحد من غلاة الصهاينة، هو الجنرال شاؤول موفاز القائد الجديد لحزب كاديما الصهيوني، ورئيس الأركان «الإسرائيلي» أثناء عملية السور الواقي التي جرت ضد الفلسطينيين أثناء حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات «.
الوطن القطرية/ بقلم علي بدوان‎

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت