تغييب العقل وأزمة غياب الإنسان

بقلم: محمد بن علي المحمود


أدرك أنني أطلت في هذه المقالات المتتالية عن العقل . وتبعاً لذلك أدرك أن كثيرين قد يتململون من هذه المقاربات التي تتناول العقل حضورا وغيابا ، وخاصة أولئك الذين يتصورون الإشكالية العقلية ، بكل علائقها ، مجرد مسألة معرفية خالصة ، مسألة ترفيه ، لا علاقة لها بما يجري على أرضية الواقع المعاش . أقصد تحديداً : أولئك الذين لا تتجاوز رؤيتهم الفكرية حدود رصد الوقائع في حضورها العيني المباشر ، وهو الحضور الحقيقي في تصورهم ، ومن ثم فهو الحضور الوحيد الجدير بالاهتمام .
لابد أن يكون العقل محور اهتمامنا ومآل اشتغالنا ، منه نبدأ وإليه نعود ؛ لأنه هو مصدر كل معنى ، بما فيه معنى الإنسان ، أي حتى ذلك المعنى المرتبط وجودياً بهذا الإنسان .
العقل ليس إضافة إلى الإنسان أو على الإنسان . العقل هو الإنسان ؛ من حيث كون العقل هو حرية الإنسان التي تبدأ بحرية التفكير ، تلك الحرية التي تجد مشروعيتها الواقعية في حرية التعبير . أي أن الإنسان وجودياً هو حريته ، وحريته هي عقله ، وغياب العقل يعني - بالضرورة - غياب الحرية ، وهو الغياب الذي يعني - بالضرورة أيضا - غياب الإنسان
العقل ليس إضافة إلى الإنسان أو على الإنسان . العقل هو الإنسان ؛ من حيث كون العقل هو حرية الإنسان التي تبدأ بحرية التفكير ، تلك الحرية التي تجد مشروعيتها الواقعية في حرية التعبير . أي أن الإنسان وجودياً هو حريته ، وحريته هي عقله ، وغياب العقل يعني - بالضرورة - غياب الحرية ، وهو الغياب الذي يعني - بالضرورة أيضا - غياب الإنسان .
الإنسان بلا حرية يتحوّل إلى (شيء) ، أي يفقد جوهر إنسانيته . وهذا أمر واضح وبدهي ، أمر وعته الإنسانية منذ فجر تاريخها ؛ إذ كانت العبودية ، كما تجلت في عبودية الرق (وهي انعدام الحرية بالكامل) ، تعني تحوّل الكائن الإنساني إلى (شيء) يُباع ويُشترى كما تباع وتشترى الأشياء .
لهذا السبب ، كانت القوانين في معظم المجتمعات الإنسانية تربط بين الحرية والعقل على نحو واضح ، تربط مساحة الحرية المتاحة للإنسان بتوقعات النضج العقلي . مثلًا ، يُمنح الفرد حرية التصرف بنفسه مستقلا عندما يبلغ سناً محددة يتوقع فيها أنه قد امتلك الحد الأدنى من التعقل (طبعا هو تعقل مشروط باختلاف المكونات الثقافية لكل مجتمع) .
وهذا يعني أنه قبل ذلك لم يكن جديرا باستخدام عقله ، ومن ثم لم يكن جديرا بأن يمنح حريته في التصرف المسؤول .
من هنا ، كانت إجابة الفيلسوف الألماني العظيم : كانط
(وكانط هو - في رأي كثير من المتخصصين في الفلسفة وتاريخ الأفكار - أعظم عقل بشري ظهر على امتداد التاريخ الإنساني الطويل) عن سؤال : " ما هو التنوير ؟ " إجابة تستحضر العلائق بين هذا الثلاثي المتوحّد : العقل والحرية والإنسان . فهو (= كانط) يرى أن التنوير يتحدد في الجرأة على استخدام العقل ، أو هو بلوغ الرشد الإنساني الذي يمنح الإنسان حرية استخدام عقله بكل شجاعة . ومن هنا رأينا كيف كان عصر العقل ( = القرن الثامن عشر الميلادي) هو عصر التنوير ، وهو - كما يعلم كلّ دارسي التاريخ - عصر الإنسان .
من هنا ، كان البحث عن العقل وفي العقل ، هو بحثاً عن الإنسان وفي الإنسان . تفعيل العقل هو رفع لدرجة الحضور الإنساني في الإنسان ؛ من حيث هو تفعيل لحريته التي تمنحه التمايز والاستقلال عن عالم الأشياء ، الأشياء الفاقدة للحرية ، الأشياء التي تباع وتشترى ، أو التي تستخدم - كموضوع فعل - على نحو من الأنحاء .
إذن ، مستوى حضور العقل هو المعادل الموضوعي لمستوى حضور الإنسان ، وهو (= الإنسان) الذي لايمكن له بحال أن يحضر إلا من خلال حريته المرتبطة ضرورة باستقلاله العقلي . وعلى ضوء هذا ، من الواضح جدا أن البحث عن العقل ، وفي العقل - وفق هذه الرؤية - هو محاولة لانتشال الإنسان (من حيث هو كائن متفرد) من عالم القطيع المُتَشيئن الذي كثيرا ما يتجلى في جماهير التقليد المبرمجة على امتثال ما تقوله الرموز الجماهيرية المُصنّمة .
وقديماً ، وصف الفيلسوف اليوناني : هرقليطس ، الجماهير بأشد الأوصاف احتقارا ؛ لأنهم (كما في وصفه) ينساقون وراء غيرهم من المشاهير كالأنعام . وهو ذات التوصيف القرآني لمن لا يستخدمون عقولهم على نحو مستقل ؛ بعيدا عن السائد النمطي الذي قد ينتهي بتأليه الأشياء ، بعد تأليه الأشخاص والمقولات .
كانط ألمح إلى الشجاعة في استخدام العقل . والشجاعة - كغيرها من الفضائل - عملة نادرة لايمكن أن تنال بالكسل والاتكال . إنها ذات ثمن باهظ . وكما يقول حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبي :
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتّال
ولا جدال - على المستوى الإنساني - أن أعظم وأبهى وأنبل وأصدق صور الشجاعة هي الشجاعة العقلية ؛ لأن شجاعة الصراع والقتال العضلي شجاعة يشترك فيها الإنسان مع الحيوان ، بل ويتفوق فيها الحيوان المتوحش على الإنسان . ولولا العقول - كمايقول المتنبي أيضا - لكان أدنى ضيغم ، أدنى إلى شرف من الإنسان .
ليس من السهل أن تستخدم عقلك ؛ مهما تصورته سهلا ؛ بل ومهما تخيلته مرتبطا منك بمجرد قرار في لحظة انتشاء أو انبهار . القدرة من جهة ، والأثمان الباهظة من جهة أخرى ، تحدان من إمكانية أن يستخدم الإنسان عقله على النحو العقلاني المستقل ، أي على النحو المستقل المرتبط بفردانية واستقلال الإنسان .
استخدامك لعقلك هو قرار ذاتي مرتبط بك شخصياً . ولكن لا يعني هذا أنك قادر على تحمّل مرحلة الإعداد العقلي والنفسي لهذا القرار ، ولا على أنك مستعد لدفع الثمن الغالي ، الثمن الذي قد يكون الحياة ذاتها . ثمة ثمن ما ، ثمن باهظ لابد من دفعه لحظة اتخاذ قرار الاستقلال العقلي .
ولهذا يقول ويل ديورانت في مباهج الفلسفة : " ليس القانون هو الذي ينتزع منا حريتنا ، بل عدم استعمالنا عقولنا إيثارا للسلامة " . والسلامة هنا ليست السلامة من الأخطار الخارجية التي ستطالنا من الآخرين ، وخاصة ممن يرون حريتنا العقلية تتهدد مصالحهم ، ليست الخطورة من هؤلاء فحسب ، بل حتى من أنفسنا التي ليس من اليسير عليها أن تتحمل مسؤولية الحرية التي تعني أن علينا في كل لحظة أن نقوم باتخاذ قرارات مصيرية خارج سياق القطيع ، أي خارج نطاق التفكير العام .
طبعا ، العقل المقصود بخطابنا ، والذي عليه مدار كلامنا هنا ، هو العقل الحر المتحرر من كل شيء إلا من العقل ذاته . إنه عقل التنوير ، العقل الجدلي المرتبط بالصيرورة أكثر من ارتباطه بالبُنية ، إنه العقل النامي والمتطور إلى ما لا نهاية ، العقل المتجاوز لنفسه باستمرار .
ما يدعوني إلى تأكيد هذا التفريق بين عقل العقل، وعقل النقل ، أن المنظومة النقلية التقليدية تطرح دائما ما تسميه عقلا . وهو لديها عقل النقل الاتباعي ، أي العقل المشروط بالمقولات المسبقة ، أي العقل المحدود بحدود التقليد .
إن ما تطرحه هو العقل الاتباعي المُدعّم للتقليد ، العقل القائم على تفريغ العقل من محتواه ، أي من كونه نشاطا إبداعيا حرا مرتبطا بمهمة صناعة أكبر قدر ممكن من الحرية لهذا الإنسان .
العقل الاتباعي الذي تطرحه التقليدية ليس عقلا حقيقيا ، بل هو تفعيل لمقولات وتصورات تتغيا ترسيخ الاتباع من جهة ، وقمع كل صور الابتداع أو الإبداع من جهة أخرى .
إن العقل الاتباعي ليس أكثر من محاولة تنظيم مقولات النقل لمحاصرة حرية العقل التنويري المتحرر . إنه (= العقل الاتباعي) مجرد آلية لتثبيت الفهم (فهم المقولات) عند لحظة زمنية ما ، لحظة زمنية يدّعي التقليدي أن العقول فيها كانت على أتم ما يمكن أن تكون ، وأنها بعد ذلك أخذت تتآكل وتضمر وتعتريها كل صور التشوهات إلى أن انتهت إلى الإفلاس ! .
لهذا ، عندما تقول التقليدية إن العقل الصريح لا يعارض مع النقل الصحيح ، فهي لا تطرح العقل الحر ، ، العقل النامي المتطور ، العقل المُتحرّر والمُحرّر ، بل العقل المعتقل ، العقل المكبل بالقيود ، والمحاصر بالمحصنات والمقدسات والمُصنّمات . أي العقل المحكوم لا الحاكم ، العقل المُقاد لا القائد ، العقل التابع الذليل الذي يستحيل عليه أن يكون حراً ، ومن ثم يستحيل عليه أن ينتج إنسانا حرا . إنه عقل الاتباع ، العقل المُسْتَعبَد ، والمُسَتعبِد ، إنه عقل الاستعباد الداعم للاستبداد ، والمناهض لكل أنشطة التحرر ولكل صور الاستقلال .
العقل الاتباعي (وتسميته عقلا مجرد تجوز في التعبير) عقل مغلق ، عقل انغلاقي ، عقل يرى مقولاته هي الصواب الكامل ، هي الحق المطلق ، ويشتغل على تأكيد هذا الادعاء ، بل ليس له من شغل إلا تأكيد هذا الادعاء الدغمائي ، الذي يعكس حقيقة مرض عقلي أكثر من كونه يعكس حقيقة عقل بشري واع لنسبية الإنسان ، ومن ثم لنسبية كل ما يتصل بالإنسان من مقولات وتصورات ومعقولات .
يقول فيلسوف التنوير الأعظم فولتير : " هناك دائما احتمال بسيط ، وهو أننا نحن الفرنسيين مخطئون ، وأن بقية العالم على صواب " . هذا هو العقل الإنساني الذي يضع نفسه في سياق الإنسانية ، كما يضع نفسه في سياق الاحتمال . ومن ثم ، فهو العقل المنفتح على التفكير في كل الاحتمالات ، العقل الذي يرى التفكير الحر ضرورة ؛ لأن ما لدينا ليس هو اليقين ، وحتى لو تضمن بعض اليقين ، فليس ثمة يقين بالكامل ، ليس ثمة يقين يضع نقطة في آخر السطر ، ويعلن انتهاء مهمة التفكير.
إن هذا العقل الفولتيري التنويري هو العقل المضاد للعقل الاتباعي المتعصب والمنغلق ، العقل الذي لا يرى أن ثمة احتمالًا للخطأ عند الذات ، بمستوى أن ليس ثمة من صواب عند الآخرين . ومن ثم لا داعي للانفتاح ، كما لا داعي للتفكير . وهذا هو مشروع إخواننا التقليديين الانغلاقيين الذين يرون العقل أخطر ما يتهددهم ، حتى وإن زعموا - كاذبين - أنه أخطر ما يتهدد الدين .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت