الأسر والأسرى إنما يكون عند الحروب والنزاع بين الدول والجماعات المتعادية ، ومن دين الإسلام أخذ العالمُ اليوم كثيراً من الأحكام والمبادئ التي ينادي بها شعاراً وتشريعا ، لا سيما في إعلان الحقوق الإنسانية ومنها حقوق الأسرى عند الآسرين ، وللأسير أحكامه العامة والخاصة في الشريعة الإسلامية ، فإن كان الأسير من عدونا فيجب على المسلمين أن يحفظوا له كرامته الإنسانية ، وأن يؤدوا إليه حقوقه التي كفلتها له الشريعة الإسلامية ، فالناس كلهم أبناء آدم وحواء فهم إخوة بعضهم لبعض ، وهذا يقتضي الشعور بالمساواة والعدل بينهم ، وليتقرر هذا المعنى ولتتأكد هذه الحقيقة فتتحول إلى سلوك وعمل وخلق يومي يؤدي إلى استقرار العالم ، وبغض النظر عن تنوع الناس وتعدد مشاربهم ، جاء قول الله تعالى في سورة النساء الآية (1) : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }، جاء للتذكير بالأصل الجامع وهو آدم عليه السلام ، وحتى لو اختلف الدين ، فالمسالمة والتعاون على الخير هي الأساس عندنا نحن المسلمين ؛ وكذلك الموادعة بيننا وبين غير المسلمين من الأمم ما لم يبدؤونا هم بالعدوان والظلم ، ويدل على ذلك قوله تعالى في الآية (8) من سورة الممتحنة : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }.
قال محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين في جامع البيان : ( .. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصصَّ به بعضًا دون بعض..) اهـ .
أيها المؤمنون : وأما النزاعاتُ والخصوماتُ بيننا نحن المسلمين وبين الأعداء فعند الضرورة وبقدرها على ما قرره العلماء وفق ما جاء في الأحكام الشرعية والنصوص والدلائل المعتبرة ، ويجب على المسلمين العملُ على تخليص الأسرى منهم ، وعليهم بذل المستطاع في ذلك ، ومن المعلوم أن الأسر في الحروب كان قبل الإسلام سبباً من أسباب الرق والاستعباد ، بل كان العرف السائد يومئذٍ أن الأسرى لا حرمة لهم ، وهم بين أمرين :
إما القتل وإما الرق ، فكان الإسلام وهو دين الهداية والرحمة قد جاء بما هو خير من ذلك كله من حسن معاملة الأسرى والدعوة إلى فك أسرهم والترغيب فيه بشتى الوسائل الكريمة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام –كما جاء في الدر المنثور- قد تبنى زيداً بن حارثة رضي الله عنه وكان غلاماً قد أسر في أصحاب له في أخواله من طيئ ،وقدم به آسروه ليبيعوه في سوق عكاظ ،واشتراه حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان زيد ٌ غلاماً ظريفاً فاستوهبه منها النبي صلى الله عليه وسلم فوهبته إياه ، إن شاء أعتق وإن شاء أمسك ،فشب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرج في إبل إلى الشام فمر بأرض قومه فعرفه قومه ، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسترجعوه إليهم ، فأبى واختار البقاء في مكة ، فدعاه صلى الله عليه وسلم زيد بن محمد من شدة حبه له إلى أن نزل تحريم ذلك ، وهذا من حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومما يدل على عظم الرحمة الإسلامية لهؤلاء الأسرى قول الله تعالى في سورة الإنسان في وصف المؤمنين : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) } ، فرغب الإسلام في إطعام الأسير ، ورغب كذلك في الرفق به ، وحسن دعوته إلى الإسلام ، قال تعالى في سورة الأنفال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} ففي ذلك استمالة قلوب هؤلاء الأسرى إلى الإسلام ، وفتح باب التوبة لهم ،وترغيبهم بما يعوضهم عن الفداء الذي يدفعونه نظير حريتهم ، وقصة ثمامة بن أثال الحنفي في البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد كان ثمامة مشركاً أسره المسلمون ، وجاءوا به إلى المسجد فربطوه في سارية من السوارى ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : له ما عندك ياثمامة ؟ فقال : ( عندي خير ٌ يا محمد : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ) ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان من الغد قال له مثل ذلك ، وفي اليوم الثالث قال النبي أطلقوا ثمامة ، فأطلقوه فإذا به يذهب ويغتسل ويعود فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض وجه ابغض إليَّ منه وجهك ، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان على ظهر الأرض دين أبغض عليَّ من دينك ، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ ، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض إليَّ من بلدك ،فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إلي ) اهـ .
أيها الناسُ ، يا عبادَ الله : و من الأحكام الإنسانية الرحيمة التي امتازت بها الشريعة أن الإسلام حرَّم أن يفرق في الأسر بين الوالدة وولدها أو الولد ووالده أو الأخ وأخيه ، وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من فرق بين والدةٍ وولدها يعني من السبي فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " .
ولا يجوز في الإسلام تعذيب وإهانة الأسير بغير حق ، بل لابد من إكرامه وحسن معاملته ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء .واعلموا عباد الله أن حسن معاملة الأسرى في الإسلام ناتجة ٌ عن أمرين : الأول يتعلق ببواعث الحروب ، لم تكن لأجل قهر الأمم وإذلالها ، والاستكبار على الآخرين ، والتجبر عليهم والطمع في حيازة ما عندهم ؛ بل الحروب في الإسلام والغزوات والقتال إنما لأجل نشر الأمن والطمأنينة ، وضمان حرية التصرفات الإنسانية في حدود العدل والأمن وعدم الإضرار بالآخرين في ظلال التوحيد وعدم الإشراك بالله تعالى ، قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }البقرة193..وقال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }النساء76 .
وأما الثاني فيتعلق بأثر من آثار الحروب وهو الأسر الذي هو ناتج عنها ولكن لابد فيه أيضاً من مراعاة أحكام الوحي ، ومن أهمها وأجلها الدعوة إلى الله تعالى ، بحسن المعاملة وحسن الهداية ، وهذا هو الذي جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً بغير قتال ، ففي بلاد كثيرة يدخلون في الإسلام بمجرد سماعهم بسماحة وعدل المسلمين .
أيها المسلمون يا عباد الله : هذا هو الإسلام ، وهذا هو عدله ورحمته الإنسانية غير المسلمين الذين يقاتلوننا في الحرب ثم يقعون أسرى ، فأين الذين يتغنون بالديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان ، من هذه الأحكام النورانية ، إذ لا يزال الأسرى في هذا العالم يعانون من ويلات آسريهم ،قتلاً وتنكيلاً وإهانة وإذلالاً ، واغتصاباً للنساء وتعريضا لهم لأبشع أنواع المعاملات مما يكذب إدعاءهم الحرص على حقوق الإنسان ، يقول أحد الأدباء الألمان (جوته) : ( إننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد ٌ صلى الله عليه وسلم ، وسوف لا يتقدم عليه أحد ٌ ، ولقد بحثت في التاريخ عن مثلٍ أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي محمد ٍ صلى الله عليه وسلم .. وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو كما نجح محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد ) اهـ .
عباد الله : إن إخواننا يقبعون في أسر الاحتلال ، آلاف الأسرى من رجالنا ونسائنا وأطفالنا ، وإن من حقهم علينا أن نعمل على إطلاق سراحهم ، وفكاك أسرهم ليعودوا إلى بيوتهم آمنين ، كما نحب أن نعود إلى بيوتنا آمنين ، وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات الآية (10) : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ، ومن الإيمان أن يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لنفسه ، وقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد واللفظ للبخاري قال :حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
عباد الله : إن ما يعانيه أسرانا ومعتقلونا من ظلمٍ واضطهادٍ الإحتلال الإسرائيلي لمما يهتك الأنظمة والقوانين الدولية المرعية الداعية للحفاظ على الحقوق الإنسانية ومنها حقوق الأسرى ، وهذا باعتراف المنظمات والمؤسسات العالمية ذات العلاقة ، وهو يشكل كذلك مخالفةً صارخةً لنصوص الشرائع السماوية، خصوصاً الشريعة الإسلامية ، وإنه لحريٌّ بأن يحظى باهتمام ذوي الشأن في هذا المجال ، وذلك باستخدام كل الوسائل المشروعة المتاحة ، فالأسرى الفلسطينيون والمعتقلون محرومون من حقوقهم كأسرى في السجون الإحتلالية مما يتناقض مع القانون الدولي الإنساني وأدنى الحقوق الإنسانية التي كفلتها الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية السابقة ، وكذلك القوانين والأعراف الدولية ، وإننا نطالب المجتمع الدولي بالقيام بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي للوفاء بملتزماته نحو أسرانا الفلسطينيين أمام العالم فقضيتنا فوق كونها قضية وطنية هي قضية إنسانية بالدرجة الأولى .
وأقول لي ولكم أيها المسلمون وأيها الفلسطينيون علينا بالعمل الجاد في هذا المضمار ولكن هذا العمل الجاد لفكاك الأسرى يجب أن يكون عملا مشروعاً ومدروساً ومنظماً وفق خطةٍ شاملةٍ بالقرار الحكيم الصادر عن الجماعة كلها ، وليس قراراً حزبياً ولا فصائلياً ، فإن الأسرى في سجون الاحتلال هم أسرانا جميعاً ، ووجب علينا العمل جميعاً على إنقاذهم ، ولذلك لا يجوز أن يفتات حزب ٌوحده ، ولا فصيلٌ وحده ، ولا جماعةٌ وحدها دون باقي الأمة والقيادة في هذا الأمر ، بل كلنا جميعاً فيه شركاء، وإلا فقد وقعنا جميعاً في الإثم بتضييع المسلمين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته " ، ومن كلام عمر رضي الله عنه : ( والذي بعث محمداً بالنبوة لو أن سخلةً ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة ، إنه لا حرمة لوالٍ ضيع المسلمين ) اهـ
ولكن يجب علينا أن لا نضيع أنفسنا بتنازعنا واختلافنا على إمامنا ، فلنعتصم بحبل الله جميعاً ، ولنقم بحق عباده ، حينئذٍ تتطهر بلادنا وترجع حقوقنا .
.بقلم /الشــيخ ياســين الأســطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت