من الطبيعي أن توصف محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك بمحاكمة العصر على المستوى العربي ومن الطبيعي أيضا أن تثير ردود فعل كبيرة رأينا بداياتها ساعة النطق بالحكم وخصوصا من ذوي شهداء الثورة،إلا أن الغريب في الأمر تجاهل المعترضين على الحكم وخصوصا من الأحزاب لحقيقة المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر وان المحاكمة تجري لشخص الرئيس وليس للنظام لأن المؤسسة العسكرية الحاكمة والمؤسسة القضائية بعقيدتهما وشخوصهما يشكلان امتدادا للنظام السياسي ما قبل الثورة. المؤسسة القضائية التي يحتجون عليها هي التي أشرفت على الانتخابات التشريعية والدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية،وان المؤسسة العسكرية المتهمة ضمنيا بالتحيز لصالح مبارك وجماعته هي نفسها التي تحالف معها الإخوان في بعض مراحل الثورة والتي قبلوا أن تقود المرحلة الانتقالية إلى حين انتهاء الانتخابات الرئاسية.
كمراقب ومتابع للحدث المصري ولمجمل التحركات الشعبية العربية يمكن القول بوجوب النظر للمحاكمة والحكم في سياق المرحلة الانتقالية التي تمر بها الثورة المصرية وفي سياق التسابق على الرئاسة الذي يجري هذه الأيام .وفي هذا السياق نبدي الملاحظات التالية التي قد تفسر حيثيات الحكم وردود الفعل عليه:-
أولا : القول بأن المحاكمة كانت سياسية وليس قضائية قول لا يخلو من الصحة ،فكيف لا تكون المحاكمة سياسية والذي يُحاكم هو رئيس دولة مخلوع عنوة مع أركان من نظامه في مرحلة تعيش فيها البلاد مرحلة مخاض ثوري؟،كما أن المقدمة الطويلة لرئيس المحكمة كانت أقرب لخطاب سياسي مما هي مقدمة حكم قضائي،وكان المراد من هذه المقدمة تبليغ رسالة سياسية وإضفاء طابع سياسي على المحكمة من خلال التأكيد نظريا على الانحياز للثورة وشهداء الثورة مع أن هؤلاء طرف في القضية المنظورة ! وهذا يعتبر خروجا عن العقيدة القضائية .
ثانيا :ذووا الشهداء وجزء من الشعب يريد محاكمة ثورية لمبارك وجماعته ،فيما مصر ما زالت في مرحلة انتقالية يقودها رسميا ومؤسساتيا- عدا المؤسسة التشريعية - النظام السابق ،في هذه المرحلة الانتقالية سقط رأس النظام ولم يسقط النظام ،وبالتالي فإن من يُحاكم مبارك وجماعته ليست محكمة ثورية بل محكمة قضائية تنتمي لمنظومة قانونية وحقوقية تتعامل مع الموضوع إجرائيا وقانونيا حسب الأدلة المقدمة من نائب عام ينتمي بدوره للنظام القديم ،بالرغم من المقدمة السياسية لرئيس المحكمة كما أشرنا سابقا.
ثالثا:يجب عدم نسيان أن المؤسسة العسكرية هي السلطة الحاكمة حتى الآن وهي تهيئ نفسها للبقاء لفترة قادمة وهي مؤسسة لها تقاليدها وعقيدتها العسكرية التي على القضاء احترامها تلقائيا أو الأخذ بها بتعليمات فوقية.على هذا الأساس فإن العفو عن مساعدي العادلي وهو أكثر ما أثار غضب المحتجين يصبح أمرا مفهوما حسب العقيدة العسكرية والأمنية .فالذين أطلقوا الرصاص على المتظاهرين والضباط الذين أعطوهم الأوامر نفذوا تعليمات جاءتهم من قياداتهم ولو تمت محاكمة هؤلاء العناصر والضباط فإن هذا سيخلق عدم ثقة بين عناصر المؤسسة الأمنية والعسكرية من جانب وقياداتهم العليا من جانب آخر، وحيث أن نفس الأجهزة الأمنية والجيش ما زالوا يحكمون البلاد،وهما ليس أجهزة أمن وجيش الثورة بل أمن وجيش الدولة وقد يحتاجا مستقبلا لإنزال قوى الأمن وحتى الجيش للشارع لقمع متظاهرين فيجب منح الضباط والعناصر الأمنية والعسكرية شبكة أمان من أية محاكمة.لو تمت محاكمة كبار الضباط والعناصر الذين أطلقوا النار على المتظاهرين فلا توجد ضمانة بان أي أوامر ستصدرها الأجهزة الأمنية والجيش للضباط والجنود مستقبلا بقمع مظاهرات ومسيرات ستُنَفذ.
رابعا:بالرغم من العور الذي شاب الحكم إلا أن ردود الفعل ما كانت لتكون بهذه القوة لو لم تتزامن المحاكمة مع الانتخابات الرئاسية.فقد وظفت جماعة الإخوان المسلمين والقوى المناهضة للمرشح الرئاسي شفيق محاكمة مبارك للزعم بوجود مؤامرة، يشارك فيها القضاء والمؤسسة العسكرية ومحمد شفيق، يُراد منها إعادة النظام السابق،وعليه نلاحظ سرعة خروج الناس للميادين وقرار جماعة الإخوان الاعتصام بميدان التحرير لحين إجراء الانتخابات وهذا التصرف يعتبر ورقة ضغط ستؤثر على مجرى العملية الانتخابية وخصوصا إن صاحبتها أعمال عنف.ونعتقد أن جماعة الإخوان ومن يؤيدها ستستمر في توظيف المحاكمة لأغراض انتخابية لحين نهاية العملية الانتخابية،فإن فاز مرشح الإخوان ستتوقف الاحتجاجات وسينسحب أنصار الجماعة من الشارع مع وعود بإعادة محاكمة مبارك وجماعته،إما إن فاز شفيق فستستمر الاحتجاجات مع تصعيدها وقد تتطور الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه.
خامسا:مع كل ما سبق فإن الحكم بتبرئة نجلي الرئيس ومعاوني وزير الداخلية وعدم محاكمة قيادات وازنة في الحزب الوطني قد يؤدي لإرباك التحول الديمقراطي ويخلق حالة من الفوضى،لأن مبارك لم يكن يحكم فعليا خلال السنوات الأخيرة،بل نجلاه ونخبة الحزب السياسية والاقتصادية والمؤسسة الأمنية والعسكرية ،وبالتالي غياب مبارك وبقاء هؤلاء دون متابعات قضائية على ذمة قضايا أخرى قد يؤدي لمحاولة هؤلاء إعادة إنتاج النظام القديم مع تغييرات طفيفة.
وأخيرا يمكن القول إنه منذ اندلاع الثورة حتى الآن، وهي المرحلة الانتقالية، عرفت الساحة السياسية عدة تحالفات بين مكوناتها التي تبدو متعارضة ،بعض هذه التحالفات كان علنيا وبعضها مستترا ،كما ان أطراف خارجية لم تكن بعيدة عما يدور في الساحة المصرية،وعليه فإن مساومات وصفقات قد تحدث في أية لحظة على حساب شهداء الثورة إن لم يكن على حساب الآمال الرومانسية للثوار.
03.06.2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت