بعد أخذ الثورة في مصر بشكل مخطط ومدروس لدائرة الاجتهادات والتفسيرات القانونية والدستورية المفرغة، وبعد أن تم استدراج جماعة الإخوان المسلمين للعب دور مخلب القط في هذا الشأن بدأ السعي لضرب أسس العملية الثورية في مصر عبر مجموعة من الخطوات والتكتيكات أهمها اليوم تصوير المعركة مع بقايا النظام القديم من أجل تحقيق أهداف الثورة إلى معركة بحث عن السلطة والمغانم بين المجلس العسكري وبين جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي "الحرية والعدالة".
إن عملية التخويف التي جرت على نطاق واسع من جانب إعلام مملوك لمستثمرين يدينون بالولاء لنظام مبارك ومن جانب الكثير من الإعلاميين المصريين سواء بحسن نية أو بغيرها كانت تصب في المحصلة النهائية لخدمة بقاء المجلس العسكري باعتباره حامي الحمى والضامن للاستقرار والأمان في جمهورية مصر العربية.
لقد جرى التخويف والترهيب على عدة مستويات، منها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي وربط حالة الجوع والعوز المتفاقمة بعد الثورة بممارسات رجال الثورة وشبابها، ومنها ما هو مرتبط بالجانب الأمني وضبط الشارع ومنع الجريمة أو الحد منها، حيث جرى تصوير مصر باعتبارها ساحة مستباحة للقتلة والمجرمين بسبب الثورة وما يقوم به شبابها من نشاطات لا تخدم حالة الاستقرار كما يزعمون. وفي هذا الإطار فقد ركز الإعلام على ربط كل حالة الانفلات (التي نعرف أن قسماً منها جرى ويتم بطريقة متعمدة ومدروسة) هي نتاج فوضى الشارع والميادين التي يحدثها هؤلاء الشباب الثوريون وليس عصابات مأجورة وأوغاد تم إطلاق سراحهم من السجون للإساءة للثورة وتجويفها من معناها النبيل.
وفي المستوى الاجتماعي والقانون السائد منذ سنوات طويلة فقد جرى تصوير الثورة باعتبارها خروجاً عن القيم والقوانين التي درج عليها الناس وتجاوزاً للمفاهيم الأخلاقية الأصيلة للمصريين بعكس الحقيقة والواقع، بل وصل الأمر إلى تقسيم الناس بين مؤيد للاستقرار والوئام الاجتماعي وبين معارض لهذا وهؤلاء هم رجال الثورة وسدنتها الذين يريدون تمزيق النسيج الاجتماعي والمظلة القانونية لمصر وشعبها على حد زعمهم. لقد جرى التحريض على الثورة في هذا الاتجاه بطريقة منهجية أوصلت البعض إلى حد الكفر بالثورة والمجاهرة بعودة نظام مبارك باعتباره الأفضل لمصر، وأن مصر يلزمها دوماً فرعون سواء كان عسكرياً أو مدنياً.
المستوى الأخطر لعملية التخويف والترهيب التي جرى استخدامها لخداع الشعب المصري وأتت أكلها بنتيجة مبهرة حتى الآن هي الحديث عن الدولة الدينية وإعادة مصر إلى حكم القرون الوسطى، وأن الثورة المصرية ستنتج ديكتاتوراً آخر غير حسني مبارك إسمه المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين يتحكم في المصريين لكن هذه المرة بغطاء ديني من الصعب خلعه باعتبار المجتمع المصري متدين بطبيعته وأنه لا جدال مع الله فيما حكم.
إن هذا المستوى قد جرى تكييفه ليسيطر على كل الحالة المصرية وجاءت تصرفات جماعة الإخوان وتكتيكاتها للاستيلاء على كل السلطة في مصر بطريقة انتهازية أحياناً لتقدم وقوداً مجانياً لعجلة الماكينة الإعلامية لخصوم الثورة ولتؤكد ما يقوله هؤلاء. ورغم أن الجماعة وحزبها السياسي ومرشحها الرئاسي أكدت كثيراً على عودة الإخوان لصفوف الثورة والتمسك بأهدافها ومن أجل استكمال هذه الأهداف وبأن الجماعة لم تغادر صفوف الثورة إلا أن المجلس العسكري نجح بما يملك من الخبرة وما يسميه البعض بالدولة العميقة في حرف المعركة الرئيسية عن سكتها السليمة وتصوير الأمر للمصريين باعتباره صراعاً يخوضه الإخوان المسلمين لأخذ مصر إلى أغوار سحيقة وضرب أسس الدولة الحديثة، كما جرى تصوير المستقبل في ظل حكم الإخوان باعتباره أساس الثورة وأهم أهدافها، وهذا يجافي الحقيقة ويعاكسها تماماً حيث الثورة ليست في وارد القبول لا بحكم ديني ولا بحكم عسكري، أو ما يمكن أن نطلق عليه وجهي الديكتاتورية المراد ترسيخها في مصر العربية.
الملاحظ أن الولايات المتحدة التي لم تغب عن المشهد المصري وعبثت به منذ بداية الثورة بنفوذها الاقتصادي والمالي والأمني دخلت بقوة على خط المستوى الأخير للتخويف والترهيب حيث نسمع يومياً تصريحات من الخارجية والبنتاجون وشخصيات برلمانية وغيرها تنادي بتسليم السلطة للمدنيين واحترام نتائج الانتخابات والبحث عن سبيل لإيجاد مؤسسة تشريعية، وقد فهم البعض هذه التصريحات باعتبارها دعماً لحركة الإخوان أو هكذا تم تصويرها من فريق التخويف والترهيب لتصب في خدمة السكة الجديدة التي يجري حرف الثورة لها.
إن الدخول الأمريكي على خط الحراك المصري بهذه الطريقة وكثافة الزيارات التي يقوم بها مبعوثي الإدارة الأمريكية سواء من وزارة الدفاع أو وزارة الخارجية يشير لما كنا قد تحدثنا فيه طويلاً حول المخطط الأمريكي- الرجعي العربي من أجل إجهاض الثورة في الدول الحليفة لمصلحة بقاء أنظمة موالية مع تغيير ضروري لوجوه لم تعد مقبولة شعبياً من القادة العرب، ناهيكم عن الحجم الكبير للأموال التي تنفق في هذا السبيل.
إن الذين نزلوا لميدان التحرير ولباقي الميادين في المدن المصرية لم يفعلوا ذلك دفاعاً عن حق الإخوان المسلمين في الولاية على مصر، وليس احتجاجاً على حل مجلس الشعب رغم وجود الكثيرين ممن يعتقدوا أن حل مجلس الشعب هو قرار سياسي ظالم، بل من أجل حماية الثورة بعد أن قام المجلس العسكري بخطوات انقلابية خلال الأيام القليلة الماضية مثل قرار الضبطية القضائية والإعلان الدستوري المكمل الذي وحد الناس مرة أخرى في مواجهة المجلس العسكري وأعاد شعار "يسقط حكم العسكر" ليتصدر المشهد السياسي المصري.
المشكلة اليوم أن قسماً كبيراً من المصريين لا زالوا مقتنعين أن الثورة انتهت وأن الصراع اليوم يجري بين عسكر وإخوان مسلمين وهذا التصور والقناعة ستقود هؤلاء وبلدهم لسكة الندامة التي تعني إجهاض الثورة وعودة مصر للمربع الأول إن لم يكن ما هو أسوأ حيث تطل التجربة الجزائرية من بين ثنايا وقائع الأيام الماضية...ندعو الله أن يحمي مصر وشعبها الأبي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت