مصير الربيع العربي رهن قيام دول مدنية حديثة

بقلم: ماجد الشيخ


تختلف طبيعة الثورات العربية التي شهدناها حتى الآن، عن تلك الثورات التي مرت على مدار السنوات والعقود في القرون الماضية، ذلك أن طبيعة التطورات التكنولوجية والتقنية قد اختلفت، ومن الطبيعي أن تختلف تلك الطبيعة ما بين زمن وآخر. ولا يعود الاختلاف الذي نعنيه هنا ما بين تكتيكات وتقنيات الثورة وأساليبها من زمن إلى آخر، بل ولكون الاختلاف يشمل تركيب القوى وأطيافها المشاركة. ومن الطبيعي في حالة ثورية عامة ضد أنظمة استبداد طغيانية حاكمة، أن تشارك العديد من قوى متباينة المواقف، أما لجهة تأثيرهذه القوة أو تلك، فلا يمكن قياسه أو الحكم عليه من بعيد، ولا شك أن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه مشاركة وتأثير القوى الشبابية واليسارية والليبرالية وغيرها من شباب بعض التيارات الدينية، يعتمد على تطور الحالة الثورية وطبيعة القوى التي يجب أن تتصدر موقع القيادة والتوجيه والتحديد لأهداف وبرامج الثورة، قبل أن ينقلب الوضع إلى ضده، حين نجد أنفسنا أمام قوى ثورة مضادة سياسية ودينية، تحاول إسقاط الثورة عبر الاستيلاء عليها وسرقتها وتجييرها لمصالحها الخاصة، وهنا الطامة الكبرى، وواقع الحال الآن، قبل أن تنتهي إلى مآلاتها الأخيرة يجسّم المشكلة ويضعنا أمام مهام ثورية غير اعتيادية، في واقع يُستخدم فيه الدين لإنتاج أنظمة استبدادية مماثلة، أهلوية أو طبقوية، أو تفيض تغولا في طغيانها واستبداديتها مقارنة بأنظمة استبداد طغيانية سياسوية.

من هنا كان افتراضنا منذ البدء، كما كنا نعول على أن تكون انتفاضات وثورات الربيع العربي على اختلافها، كنوع من بروفات تمهد لمعارك قادمة، تؤسس لانتفاضات وثورات أوسع وأشمل وأكثر جذرية في فصول قادمة، في هذا البلد أو ذاك، وتاليا فإن الدروس المستفادة ينبغي لها أن تصلب من عود القوى الشبابية والشعبية واليسارية والديمقراطية، وتدفعها إلى أشكال عليا من تنظيم صفوفها، ورصها أكثر في جبهات وطنية محلية، تأخذ صيغا أكثر مرونة في توحيد قواها من أجل أهداف النضال السياسي والطبقي محليا وإقليميا، والتوافق على تكتيكات هذا النضال، ووضع تصورات إستراتيجية أوضح، تُفصح أكثر مما تضمر من أهداف ومآلات الكفاح السياسي والوطني لشعوبنا العربية، دونما خجل أو وجل من قوى قد تصطف اليوم مع الثورة، لكنها في الغد قد تنقلب إلى الضد، فتنضم إلى قوى الثورة المضادة، أو حتى تصبح قائدتها من قبيل بيروقراطية عسكرية أو قوى إسلاموية، يسعى كل منها منفردا أو مجتمعا، أو تواطؤا، إلى وراثة أوامتلاك السلطة القديمة بأي ثمن.

هكذا.. ونحن في مواجهة مهام تمرينية على الثورة، لا ينبغي الاستهانة بدور أو أدوار القوى الثورية الحقيقية، التي تحمل أعباء استمرار وتواصل الثورة، حتى تحقيق كل مآلات العملية الثورية، وإلاّ فإن دور القوى غير الجذرية: الإصلاحية والسلطوية والإسلاموية هو محط تشكيك وعدم يقين، لجهة ما يمكنها وما لا يمكنها فعله، فالشارع المعبأ بشعارات الإسلامويين السياسية ليس على دراية أو وعي في شأن أهداف الثورة، وهي مما لا يمكن تحقيقه بالضربة القاضية، وإنما بتدرج أو عبر موجات قد تأخذ زمنا أطول من المتوقع، ومثال ما يجري في مصر اليوم أسطع مثال على الصراع المحتدم على الثورة نفسها، ناهيك عن أهدافها، من داخلها وعلى حوافها، وفي ما إذا كان يجب أن تستمر أو يجري الاكتفاء بما تحقق حتى الآن. في حين أن ما تحقق لم يتجاوز الإطاحة برأس النظام، أما النظام ذاته فما زال يعمل وفق الآليات القديمة إياها، وبنفس القوى المحركة له كنظام لثورة مضادة، تسعى أطرافها لتحقيق مصالح وتطلعات الشركاء والأشياع للاحتفاظ بالسلطة؛ عسكرية كانت أو إسلاموية. وتلك مهمة إستراتيجية ومركزية شديدة الإلحاحية والوضوح، على القوى الشعبية الشبابية واليسارية والديمقراطية والعلمانية تبنيها والكفاح من أجلها، في مواجهة كل مس بالحريات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر السياسي والمجتمعي والوطني، طالما أن القوى المحافظة والرجعية تسعى على الدوام للحد من كل نزوع تحرري في مواجهة الاستبداد، أيا كان مصدره محليا، إقليميا أو دوليا.

من هنا وعلى هذه الخلفية، بدأ الفضاء العربي يشهد العديد من أنواع التواطؤ في إحداث، أو استحداث مكامن لتشوهات جديدة في آليات الديمقراطية العربية، لا سيما في أعقاب إنجاز بعض ثورات الربيع العربي لبعض مهام التحول التاريخية الضرورية، من دون استكمال السيرورة الثورية التي تقتضيها ثورات الشعوب على الأنظمة الاستبدادية.

هذا التواطؤ قد يصل بنا إلى إحداث تزاوج ثنائية جديدة على غرار زواج المال والفساد بالسلطة، ما أنتج ثنائية التحالف الثنائي بين الاستبداد والإمبريالية، وذلك من قبيل ابتداع مزاوجة تحالف الدين والسلطة أو السياسة في بناء الدولة، حيث القوى الدينية، أو الأحرى بعضها وفي سياق تصدرها لمشهد العمل السياسي الراهن في كل من تونس ومصر وليبيا، وربما في الغد في سوريا واليمن، تقدم مقاربة مختلفة لتلك التي تكمن في العقل الجمعي، للجموع الشعبية التي كانت في مقدمة وطليعة قوى الثورة في ميادين وساحات الكفاح الشعبي العربي، ضد أنظمة الاستبداد التي حكمت مجتمعاتها بمزيج من الاستبداد السياسي المختلط بمزيج من الاستبداد الديني، ما أنتج بطريركية أبوية مختلفة عن تلك التي سادت في القرون القديمة والوسطى، وحتى الحديثة كما في أوروبا ما قبل التنوير.

لقد عرفت أوروبا قديما مزاوجاتها ما بين الدين والدولة، ما وضعها في مواجهة بربرية متوحشة بين مدنييها وعلمانييها وقوى التدين السياسوي التي أرادت إضفاء سمات التدين وصفات الدولة على بعض كنائسها، فلم تنجح مطولا في هذا الاتجاه، إلى أن سادت قيم العلمانية لتزاوج بينها وبين الديمقراطية والقيم الثقافية التي حررت الدولة والسياسة من هيمنة الديني، وخلصت الدين من هيمنة ظلاميي التدين، وأعادت بناء العلاقة السوية بين الدولة والمجتمع ومدنيتهما ذات المرجعية الشعبية.

هنا في هذه البلاد، ومهما حاول الديني أن يتخفى أو يتماهى بأحزاب مدنية، فإن مرجعياته تبقى دينية قلبا وقالبا، وفي كل الأحوال فإن دسترة الهيمنة السياسية ولو عبر واجهة دينية، أو العكس؛ هذه الدسترة لا يمكن الكشف عن مكنوناتها الحقيقية، إلاّ في عراء السلطة والسلوك المكشوف لطبيعة الممارسة على الأرض. ولنأخذ مثلا على فصامية ما قال دينيون وصلوا إلى السلطة، فانكشفت تلك الفصامية عن ممارسة وسلوك سلطويين، ناقضوا فيه كل ما نادوا به وهم يمهدون للقفز إلى السلطة. وإذ بالسلوك السلطوي الفضّاح يفصح عن توجهات دينية خالصة، بحيث كشف بعض سياسيي التدين الإسلاموي الحديث عن وجوههم؛ كوعاظ وفقهاء ومشايخ وأصحاب مال وأعمال.

من هنا ينبغي أن يكون واضحا، أن مرجعية أي دولة مدنية في التشريع، تعود إلى مرجعيات شعبية مدنية لا دينية. فالدولة كمجال عام لا تنتمي إلى المجال الديني حتى بوجود متدينين يعملون في إداراتها، ولا يمكن مطابقة المدني بمرجعية دينية، على ما يحاول تلفيقيون من تزويج لضرائر متضادة. خاصة في المجتمعات والدول المتعددة دينيا وإثنيا، وإلاّ تحولت الدولة إلى مرتع لاستبداد جديد، يمازج عبره الديني بين سلطته الدينية وتلك الدنيوية أي السياسية، وفي هذا غبن للمجتمع المدني والسياسي، وإخضاعا له لأوامر "إلهية" ينطق بها البشر فقها وتفسيرا وحديثا وتأويلا، وبما يتوافق وطبيعة المصالح الخاصة، وحتى الأشد خصوصية لأصحابها؛ ممن لا يريدون سوى الإحتكام الدائم لمرجعيات دينية سلطوية، يضفون عليها سمات تتوافق وفق اعتقادهم مع شرع يتصورونه "الشرع الإلهي"، فيما هو نتاج التفسير والتأويل الفقهي أو المشيخي الحديث لرموز الفرق والتيارات الدينية المختلفة المتضادة والمتضاربة، فلأي "شرع" يخضع الإنسان ولو كان لما يتضاد مع الشرعية، أو الخضوع لمرجعيات دينية باعتبار كونها مدنية اسما لا ينطبق على أي مسمى. فأي اعتبار للفصل بين الديني والسياسي سوى اعتبارات أن الدولة المدنية، لا يمكنها التحول إلى دولة دينية كنتاج لفوز أو تفوق "قوائم إسلامية" في انتخابات تشريعية عامة، إلاّ في حالة واحدة فقط؛ عودة التواطؤ كسيد يحكم الجميع ويلفهم بصمته، ليدخلهم من جديد جوف الخوف في مملكة السلطة الاستبدادية الجديدة.

ولكن ها هنا يكمن استعصاء جديد، يشهد لخروج مارد القوى الشعبية من قمقمه، ففي مناخات الحرية الجديدة والتحرر من الاستبداد، تستطيع الإرادات الشعبية لقوى الحيوية التاريخية في المجتمع أن تعيد تنظيم صفوف مقاومتها من جديد؛ في حال أرادت قوى التدين الإسلاموي العودة إلى الوراء؛ إلى عهود الاستبداد السياسي، ولكن بواجهة دينية مباشرة هذه المرة.

لذلك لا ولن تكتمل ثورات الربيع العربي، من دون قيامات حقيقية لدول مدنية، الأولوية فيها لإعادة إنتاج وطنية شعبية موحدة، تعيد تشريع دساتيرها انطلاقا من عقود وعهود المواطنة وسلطة القانون والمجتمع المدني الديمقراطي التعددي، كقاعدة ناظمة لممارسة وسلوك ديمقراطيين، وتشريع وجود شرعية قانونية ودستورية تعتمد الحرية والمواطنة والقانون، كمبادئ ناظمة لدولة عمادها سياسة مدنية تمنع تغول الديني وتحكّمه وهيمنته على شؤون البشر باسم السماء.

إن أخشى ما نخشاه اليوم في أعقاب نتائج الانتخابات التونسية، ومن بعدها المصرية، وما حملته تصريحات رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل؛ مواجهة إمكان سعي البعض لتحويل الربيع العربي وثوراته الديمقراطية التعددية إلى "خريف إسلاموي" بديل، يضع هذه الثورات في مواجهة ثورات مضادة، أحادية في اتجاهاتها وتوجهاتها نحو إقامة دول دينية تتصارع قوى "الإسلام السياسي" في دواخلها في ما بينها، وتنشر زوابع من صراعات لا حصر لها بين تلك الدواخل والقوى المهيمنة فيها، وبين قوى ديمقراطية تؤمن بالتعددية وبمرجعية الشعب للدولة المدنية وبالمسارات المدنية السياسية والديمقراطية للدولة، ولبناء مجتمع مدني قوي لا تأخذ السلطة الحاكمة في غيابه الدولة، حيثما تريد قوى الهيمنة الجديدة ذات الطابع الإسلاموي، بفعل إرادتها الذاتية، أو بفعل ضغوط قوى دينية أخرى أكثر تشددا والتزاما بحرفية النصوص، أو حتى خضوعا لتأويلاتها هي استنادا لتأويلات وتفسيرات البعض من "السلف الصالح". ما يضعنا من جديد في مواجهة مهام ابتناء أنظمة سلطوية واستبدادية جديدة، قد تؤول إليها السلطة بالغلبة وبالإكراه، كما وبالاختيار "الطوعي" عبر صناديق الاقتراع. وكي لا ننسى فإن فوز الحزب النازي في الانتخابات الألمانية لم يكن سوى "القدر" الذي خضعت له الدولة، بل ورأت شروره كل مناطق العالم المختلفة.

وهذا يضع على عاتق كل قوى الحداثة والتنوير مهمات كفاحية راهنة على الدوام، من أجل بناء دولة مدنية حديثة لا تفرّط بالحريات؛ كل الحريات، وحرية المعتقد في مقدمتها، والوقوف سدا منيعا في مواجهة دعاة الحروب الأهلية؛ ممن يدعون وبشكل مباشر لبناء صروح الدول الدينية، تلك التي لا تحفظ ودّا، ولا تحفظ حقا إلاّ في أضيق الحدود وللبعض من أولئك "الدعاة" وهم يتحولون إلى قضاة نزاع ونزوع نحو الحروب الأهلية، فيما تلك الدول ذات الصبغة الدينية، تلتزم إقامة أوسع "الحدود" في شرعها وتشريعاتها، وتتجاهل الكثير من الحقوق كحقوق مدنية لا يدخل الشرع أو الشريعة في مجال اختصاصها. وعلى العموم فالإسلام السياسي انتهازي بطبعه وطبيعته، ولم يكن يوما مبدئيا لا في جوهره التكويني ولا في جوهره العقيدي، كذلك هو أمين، بل الأكثر إيمانا بالاستبداد الأكبر، والمنافح الدائم عنه وعن سلطة له تدوم، ديمومة هيمنته المطلقة التي لا يريد أن يشاركه فيها أحد؛ مطلق أحد. ولئن كان هناك من موجب للثورة، فإن واجبات الناس، كل الناس، التهيئة والتحضير لثورات تقتلع منطق "التفكير النقلي" الذي أعادنا؛ ويريد إعادتنا سنوات ضوئية نحو التخوم الأولى لأدلوجات سلطة نشأت في أحضان الغزوات القبائلية التي كرست كل ما كان يجب اقتلاعه، في ما لو كانت تنسجم وادعاءات "أصحابها" أنها كانت ثورة غيّرت وجه التاريخ والمنطقة عموما. فالثورات هي الأولى بالتقدم لا بالنكوص أو التراجع إلى قروسطية دائمة الجمود، لا تتحرك إلا دفاعا عن مصالحها وسلطانها الأبدي المطلق!.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت