هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان
الحلقة الأولى : في الصيام
مرحباً بك يا شهر رمضان ، مرحباً بك يا شهر الغفران ، مرحباً بك يا شهر الرحمة والعتق من النيران ، مرحباً بك يا شهراً خصه الله تعالى بأن نزل فيه الفرقان ، وجعله شهر مدارسة وتلاوة القرآن , مرحباً بك يا شهرا الصيام والقيام ، يا شهر الطاعات ، خصك الله بليلة القدر والاعتكاف في عشرك الأواخر ، نسأل الله العظيم أن يبلغنا كل لحظة فيك لنستزيد من فعل الخيرات والقربات إلى خالق السماوات ، وليرضى عنا ربنا وينزل علينا الرحمات .
رغَّب الله تعالى عباده المؤمنين بأداء فريضة الصيام في شهر رمضان بأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم ، فقد قال سبحانه { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } البقرة 185 ، فالقرآن هو الكتاب الخالد الذي أنشأ هذه الأمة وأخرجها من الظلمات إلى النور بإذن ربها ؛ وأبدل خوفها أمناً ومكّن لها في الأرض ووهبها مقومات القيادة بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً في الأرض أو السماء .
ودافع الصيام عند المؤمن هو الإيمان بالله تعالى والرغبة في رضاه ، قال صلى الله عليه وسلم { ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر } رواه البخاري . ولم يشرعه الله ليكون مجرد إمساك آليّ عن الطعام والشراب وسائر المفطّرات ؛ فإنه يكون بذلك صورة للحرمان الجسمي الذي لا يثمر غير المشقة والعذاب ، فقد قال صلى الله عليه وسلم { رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش } رواه أحمد ، وإنما شرعه سبحانه ليكون عبادة روحية لا تكون إلا له وحده ، ولا يجازي عليها إلاَّ هو وحده لأنه المطلع عليها وحده ، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله سبحانه { كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به } رواه البخاري .
ورمضان أيضاً موسم للإكثار من القُرُبات إلى الله تعالى وللمسارعة في الخيرات والأعمال الصالحة من قيام وتهجد وقراءة للقرآن وإيتاء للصدقات واعتكاف ، قال صلى الله عليه وسلم { من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر } رواه البخاري ، فلنحاول أن نملأ لياليه بالعبادة ، ولنبتعد ما استطعنا عن السمر والعبث واللهو المحرم فهي أثمن من أن نضيعها بهذه السفاسف ؛ قال صلى الله عليه وسلم { أتاني جبريل فقال يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله ، قلتُ آمين } رواه ابن حبان .
وفيه يكثر المؤمن من الدعاء إلى الله تعالى فإن الدعاء هو العبادة وفيه الإجابة إذا كان الداعي موقناً بها ، قال صلى الله عليه وسلم { إن الله عز وجل ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيرددهما خائبتين } رواه أحمد ، لأن فيه صدق التوجه إلى الله عز وجل وشعور بالقرب منه ؛ وأمام هذا الشعور تهون كل مشقة قال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } البقرة 186 ؛ فالصائم من أقرب الداعين استجابة قال صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين } رواه الترمذي .
والصيام يحكم سلوك المؤمن ويربي ضميره ؛ فهو يحرص في صيامه على تقوى الله لأنه فرصة عظيمة للعهد معه سبحانه وتعالى ، ولتجديد التوبة وكف الجوارح عن المعاصي والآثام ؛ فالمرجوّ منه حصول التقوى لدى الصائم ؛ فالصوم يوقظها في القلوب لتحرسها من الإفساد بالمعاصي أو الهواجس ، قال صلى الله عليه وسلم { من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه } رواه البخاري . فإذا كان الصائم يمتنع عما أحل الله من النعم طلباً لمرضاته ؛ فمن باب أولى أن يمتنع عن المحرمات والمعاصي اجتناباً لغضبه .
إن هذا الشهر يذكرنا ونحن على موائد الإسراف الفاخرة المليئة بأصناف الأطعمة المختلفة بالفقراء والمساكين والمحرومين الذين لا يجدون ما يقتاتون به ، فإن نبي الله يوسف عليه السلام كان يجوع وهو على خزائن الأرض لئلا ينسى الجياع ، وهذا شهر تتضاعف فيه الحسنات فالفريضة فيه بسبعين في غيره ، فأداء فريضة الزكاة فيه والتطوع بالصدقات يحقق هذه الأهداف جميعاً .
ولئن كان في الصيام جهد ومشقة إلا أنه يربي الإرادة والعزيمة ، ويقوّي الصبر والاحتمال ، ويوجّه النفس إلى إيثار العبادة على الراحة ، فإن هذا الجهد وهذه المشقة تهون أمام ما أعد الله تعالى له من أجر ، ومع هذا فإن الله سبحانه يخفف من هذه المشقة على عباده بالرخصة فيها كما رخّص في غيرها من العزائم والفرائض ؛ إذ أن المشقة لم تكن هدف شريعة الله أبداً ، قال تعالى { يُرِيدَ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } البقرة 185 ، فمن رحمة الله سبحانه أن خفف عن المريض والمسافر بالفطر ؛ لكن مع القضاء بعد رمضان ؛ قال تعالى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } البقرة 184 ، أما من المسن فقد وضع الله عنه المشقة فشرع له الفطر مع الفدية عن كل يوم ، قال تعالى { وَعَلَى الذِّينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامُ مِسْكِين } البقرة 184 ، إن هذه التيسيرات وغيرها تجعل الصيام رغم مشقته عبادة سهلة على من تذوق حلاوتها ؛ حتى أصبحت نفسه مليئة بالسماحة بعيدة عن التعقيد والتكلّف مفعمة بالثقة والطمأنينة والرضا .
فرض الله تعالى الصوم على الأمة التي فرض عليها الجهاد في سبيله ، فالأمة المجاهدة لا بد لها من إرادة عازمة جازمة حازمة ، وطاعة لله كاملة دائمة ، والصيام يسهم في إعداد النفوس لهذه المهمة العظيمة وتحمّل أعبائها وواجباتها ؛ ويسهم أيضاً في إعداد الأفراد للدور العظيم الذي أنيط بهذه الأمة وهو قيادة البشرية ؛ هذا الدور الذي تحكمه رقابة الله وتحرسه التقوى ؛ لأن الصيام استعلاء على ضرورات الجسم كلها واحتمال ضغطها وثقلها وإلحاحها إيثاراً لما عند الله من الرضا والمتاع ، فهو مدرسة كبرى تهذب النفوس وتعلمها الصبر والمصابرة في مواجهة ما قد يعترض المسلم في حياته من شدائد بالمقاطعة أو المحاصرة أو التجويع أو القتل أو الاعتقال أو التنكيل أو التنكيد من العدو ؛ فهو شهر الصبر والجهاد ، قال صلى الله عليه وسلم لرجل من باهلة { صم شهر الصبر ؛ رمضان } رواه أحمد ، وهو مدرسة يتخرج المسلم منها قوي الإيمان صافي النفس مطمئن القلب مقبلاً على الله تعالى .
لذا كان هذا الشهر المبارك شهر الانتصارات ، ومنها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ انتصار المسلمين في بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة ، ومنها أيضاً فتح مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت