قراءة سريعة لدوافع ونتائج جريمة سيناء

بقلم: نافذ غنيم


المتابع للتطورات السياسية والامنية، وللحركة الميدانية على جانبي الحدود الفلسطينية المصرية، يدرك منذ فترة بان هناك شيء يتحرك ويكبر مستندا الى حالة الانفلات الامني الذي نشأ بسبب ظاهرة الأنفاق وما ترتب عليها من تداعيات، وبسبب ضعف الوضع الامني في منطقة سيناء، وتدني المستوى المعيشي لسكانها، وقد سبق ان كُتبت العديد من المقالات حول ذلك، من بينها احدى مقالاتي السابقة " حوار هاديء .. الانفاق والحاجز الفولاذي " التي تضمنت الاشارة الى المخاطر المتعددة لظاهرة الانفاق برغم ما سهلته على ابناء قطاع غزة من سبل معيشية، حيث كان ابرز مخاطرها البعدين السياسي والامني، وأشرت الى الثمن الذي سندفعه نحن الطرفان بسبب هذه الظاهرة .
مجزرة سيناء وقعت، ليذهب ضحيتها عدد من بواسل الجيش المصري، وبسبب بشاعتها حركت الحالة السياسية والأمنية في المنطقة كردة فعل على ما جرى، وفي محاولة لتجاوز اثارها وضمان عدم تكرارها، واعتقد بان الامر لا يمكن ان يعالج بالكشف عن مرتكبي الجريمة ومن يقف خلفهم فقط، وإنما بالأسباب الكامنة وراء هذه الجريمة، والتي بلا شك استغلت من قبل اعداء الشعبين الفلسطيني والمصري لأجل اهداف سياسية بالدرجة الاولى تتعارض بكل تأكيد مع مصلحة الشعبين، ان ذلك بحاجة لان نرى الامور بأبعادها الاربعة، السياسية والامنية والاقتصادية والفكرية، كيف تفاعلات مجتمعة لتنتج مثل هذه الجريمة التي قد تتحول لفعل دائم اذا ما استمرت ماكنة تفريخ هذا الفعل قائمة، وربما بصورة ابشع واكتر اتساعا، وبالتالي استخلاص سبل المعالجة وصولا لحالة اكتر استقرار تعود بالنفع وبالمصلحة على الشعبين الشقيقين الفلسطيني والمصري .
سياسيا: ان المستفيد الاول من نتائج المجزرة هو بلا شك الحكومة الاسرائيلية، فقد وضعت المجزرة قضية مستقبل الحصار والأنفاق وبالتالي مستقبل قطاع غزة على المحك من جديد، فإسرائيل التي " انسحبت " من قطاع غزة كانت ولا زالت تنفذ مخططها بدقة متناهية من اجل فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية سياسيا بعد ان نجحت في فصله جغرافيا، وقد ساعدها في ذلك بكل اسف الانقسام الفلسطيني الكارثي، لتحقق هدفها التاريخي بالقضاء على المشروع الوطني الفلسطيني وفي مقدمته اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الاراضي التي احتلت عام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية، لذا فهي فرضت حصارا بإغلاق معابرها تقريبا، وفي ذات الوقت غضت الطرف عن ظاهرة الانفاق المنتشرة على طول الحدود الفلسطينية المصرية، ضمن حدود ان لا تشكل ضررا امنيا عليها، وهي بذلك رسخت شيئا فشيئا واقع الاعتماد والتبعية الاقتصادية الى حد كبير على مصر، بمعنى السير خطوة خطوة نحو تكريس واقع الفصل والتمايز بين شطري الوطن، وهي لم تكن في حقيقة الامر ضد ان يُفتح معبر رفح التجاري كخطوة لترسيم وتطبيع واقع الانقسام الفلسطيني، وان بدت ظاهريا انها ترفض ذلك بدعوى تشديد الحصار، هي تريد فقط ان تحقق هذا الهدف في اطار اتفاقية ربما تجد لها مناخا مناسبا الان بعد صعود الاخوان المسلمين في مصر لسدة الحكم، مما يمهد الارضية السياسية لاستيعاب وضع قطاع غزة انطلاقا مما يستند اليه فكر وسياسة ومشروع الاخوان المسلمين الذين يسيطرون الان على مصر وقطاع غزة .
لقد بات مطلوب اليوم ان تنتهى حالة الأنفاق لصالح فتح المعبر التجاري، بعد ان سهلت حركة المسافرين الى حد "ما" عبر معبر المشاة، ان وهذا ما عبر عنه بعض قادة حركة حماس، من اجل الاعتراف وترسيم الحالة القائمة في قطاع غزة، ولم يكن مصادفة الحديث الان عن المنطقة التجارية الحرة التي تحمل دلالات سياسية خطيرة حال انشائها، اذا لم تأتي في سياق معالجة حالة الانقسام واستعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني، ان ذلك بات يصطدم بواقع قد نشأ على الارض، حيث مصالح الالف ممن يعتاشون على اقتصاد الانفاق – بما له وما عليه - والاهم اؤلئك الذين يجنون ملاين الدولارات من ورائها، واعتقد بان حكومة حركة حماس ستكون امام واقع صعب متناقض، ما بين ما تريده من تعزيز لكيانها والاعتراف بها كجهة رسمية مسيطرة على قطاع غزة، ومنفتحة بطريقة شرعية على العالم، وبين اباطرة الأنفاق ومصلحتهم في استمرار ظاهرة الانفاق والتهريب، حيث باتت هذه الظاهرة جزء اساسي من اقتصاد حركة حماس وحكومتها كجماعة وأفراد .

امنيا: من الواضح بانه خُطط بعناية لمثل هذه المجزرة، لتشكل رسالة قوية الى حكومة مرسي الجديدة، مفادها بان امن مصر هو المتضرر الاساس من حالة الانفلات الامني في سيناء، وان هشاشة الحالة الامنية هناك سيدفع ثمنها النظام المصري ومؤسساته ثمنا فادحا قبل ان تدفعه اسرائيل، بمعنى ان توالد وتكاثر المجموعات المسلحة بكل تفريخاتها على الحدود مع اسرائيل، يشكل ضررا للحالة المصرية، هي رسالة ارادت اسرائيل ان توجهها مستفيدة من الحالة القائمة، من اجل استنفار النظام المصري للتحرك لضبط الوضع على طول الحدود، وهي في ذات الوقت ورقة تستفيد منها اسرائيل وقتما شأت للضغط على حكومة مرسي طالما بقيت هذه الحالة قائمة، وفي ذات الوقت هي اختبار بالدم لموقف مرسي وحكومته من الجماعات المتشددة التي تحاول الاستفادة من الوضع السياسي الجديد في مصر، بعدما استفادت من الحالة الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي تنامت ابان حكم النظام المصري الراحل .
ان التدهور الامني الذي تشهده منطقة سيناء هو كان سببا ونتيجة في ذات الوقت لنشوء وتنامي نشاط المجموعات المتشددة، التي استفادت من الحالة الاقتصادية المتردية التي يعانيها سكان سيناء، الذين افتقروا طوال الوقت لتنمية حقيقية، ولمعالجة قضاياهم الحياتية ، ولإحساسهم الدائم بالغبن والتمييز على مدار عقود مضت، وقد ساعد في ذلك ايضا سهولة تهريب السلاح وعمليات التدريب سواء كان ذلك داخل سيناء بسبب طبيعتها الجغرافية، او بسبب الواقع الذي نشا على طول الحدود المصرية الفلسطينية بسبب عمليات التهريب عبر الأنفاق، بما في ذلك التنقل اليسير للمشبوهين والمطلوبين امنيا بمن فيهم افراد الجماعات المتشددة والتكفيرية .
لقد ادركت اسرائيل نتائج ذلك .. المساعدة في خلق حالة من الفوضى والانفلات – ضمن حدود معينة – للاستفادة منها، لترسخ واقعا لا مفر منه، وهو ان الامن المصري والإسرائيلي متلازمان لا انفصال بينهما، وبان هناك مصلحة استراتيجية للبلدين لرفع مستوى التنسيق الامني والحفاظ على الاتفاقات الموقعة وفي مقدمتها اتفاقية "كامب ديفد"، وهي - أي اسرائيل- لم توافق على ادخال قوات مصرية ومعدات ثقيلة الى سيناء بعد المجزرة، الا بعد ان اطمأنت لحكومة مرسي وتوجهها السياسي والامني في العلاقة مع إسرائيل، والتي سبق ان سرب الكثير عنه قبل وأثناء الانتخابات المصرية الاخيرة.
اقتصاديا: ان الوضع الاقتصادي في منطقة سيناء شكل الارضية الخصبة لنمو الفكر المتطرف، ولنشاط الجماعات المتشددة، كما شكل اساسا لإحداث حالة الفوضى التي سعت اليها مختلف القوى المعادية لاستقرار مصر ولدورها القومي، ولتسهيل نفاذها من خلال هذه الحالة سعيا لموطئ قدم يمكنها من تحقيق اهدافها ومصالحها السياسية في المنطقة، وقد شكل هذا الوضع دافعا اساسيا للكثير من المصريين للتفاعل مع اقتصاد الأنفاق حتى وان كان يشكل خطرا قوميا على مصر، فالى جانب حالة الانفلات الامني وتوفير الاسلحة المتعددة للكثير من الجماعات الخارجة عن القانون المتعددة الأهداف فقد ادت عمليات التهريب الى المس بحاجات المواطن المصري، وأضرت بمستوى السلع المدعومة من قبل الحكومة المصرية كالوقود بمختلف انواعة، وتسببت بنقصها في الاسواق، لتجد طوابير الانتظار امام محطات التزود بالوقود وفي ارتفاع سعر انبوبة الغاز، وفي نقص الطاقة الكهربية في عديد المناطق، حيث بات المواطن المصري يستشعر خطرا ومسا بمصلحته اليومية جراء الانفتاح الغير مشروع على قطاع غزة من خلال الأنفاق، وبدا ينمو شيء فشيء احساس لدى كثير من المصريين بان الفلسطيني يقاسمه حاجاته الاساسية، ان هذا الشعور والاحساس اليومي للمواطن المصري اخذ في التنامي منذ سنوات مضت، ليعبر عنه بقوة في حالة الانفلات العفوي والتفاعل مع احداث المجزرة التي ارتكبت بحق افراد الجيش المصري، لتكال الى ابناء شعبنا الاتهامات والاساءات المختلفة، ومن ناحية اخرى فان اهالي منطقة سيناء يريدون دفع الاذى والتهمة عنهم، وهم الذين يعانون سياسة التهميش والنقص في الكثير من الخدمات، هم ارادوا ان يقولوا لسنا ما يتحمل المسئولية، في محاولة لتجنب غضب الجهات الحكومية وأجهزتها الامنية . وبالتالي القاء التهمة جزافا باتجاه ابناء شعبنا الفلسطيني .
ان هذا التطور السلبي في العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والمصري يستفيد منه بلا شك كل من يسعي لضرب المقومات والمشاعر القومية التي شكلت على مدار التاريخ دافعا ومحركا لدعم القضية الفلسطينية والتعاطف معها من قبل الشعب المصري وكافة الشعوب العربية .
فكريا: ان طبيعة المجزرة الوحشية تؤكد بان من قام بها هم مجموعة حيوانية حاقدة تفتقر الى ادنى المشاعر الانسانية، وهم بالتاكيد لا حس وطني لهم، ومن الجائر ان نصفهم بالمسلمين، فهم خارج حدود البشرية، واعتقد بان من قام بذلك قد تعمد فكره بوعي الانحطاط والظلام واحتقار ادمية الانسان، وأي كانوا هؤلاء المجرمون، ومهما كان منبعهم الفكري، فهم نتاج حالة سياسية واقتصادية واجتماعية، فتحت المجال لنمو مثل هذا الفكر والوعي المتطرف، وان كانت الظروف المعيشية هي الحاضنة الاكبر لمثل هذا الفكر وتبعاته، فان طبيعة النظام السياسي الذي حكم طوال الفترة السابقة كان له الدور في نمو وانتعاش مثل هذه الحركات بدل من تقويضها والقضاء عليها، واعقتد بان مثل هذه الجماعات شعرت في الاونة الاخيرة وبعد حالة الصعود التي شهدها الاسلام السياسي في المنطقة، بان واقعا جديدا قد نشأ، يمكنها من التحرك لتحقيق أهدافها، لا سيما بعد ما الت اليه الاوضاع في قطاع غزة وتكريس حركة حماس سلطتها عليه، وكذلك سيطرة الاخوان المسلمين في مصر على مقاليد الحكم . اعتقد بان تحدي كبير يواجه حكومة مرسي الان في كيفية التعامل مع هذه الجماعات، التي سبق لحركة حماس وحكومتها في غزة ان تعاملت معها، حيث اجتث بعضها بالقمع الدامي، ..تحدي في كيفية التعامل مع هذه الجماعات وتحجيم دورها، وتقويض فكرها التكفيري، هل ياتي ذلك عبر بوابة القمع والاجتثات كما حصل في مسجد بن تيمية برفح ؟ ام عبر تعامل مختلف مع الواقع الوطني والاجتماعي بكافة تفاصيله، حيث تعزيز مبداء الشراكة وفتح المجال للحريات العامة وإشاعة الديمقراطية، وفي مقدمتها الحريات السياسية التي عنوانها الانتخابات، وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية في كافة المجالات، والتعبئة بفكر معتدل منفتح قائم على مفاهيم التسامح والوحدة والتاخي، ورفض نهج الاقصاء والتكفير والتخوين، والرقي بالفرد واعتباره غاية النظام السياسي لا وسيلة من اجل تحقيق المنافع الشخصية والتنظيمية .
ان هذا التحدي بات ملحا اليوم في قطاع غزة وفي مصر، بحيث بات علاج هذه الظواهر شرطا لضمان السيادة الكاملة للحكومة المصرية على اراضيها، وضمان استقرارها ووحدتها، والسير باتجاه التنمية الحقيقية، كما بات شرطا للتقدم على طريق الاستقلال الوطني الفلسطيني، انطلاقا من حقيقة ان تلبية حاجات الجماهير الشعبية وتعزيز الديمقراطية ومحاربة التطرف وانجاز الوحدة، هو شرطا للتقدم باتجاه تحقيق الشعب الفلسطيني لأهدافه الوطنية .
ان العلاقة التي ربطت وما زالت الشعبين المصري والفلسطيني هي اكبر من ان يهزها حدث جلل، برغم انه لم يثبت حتى الان علاقة للفلسطينين بذلك، وحتى لو كان لاحد الافراد او الجماعات الموتورة دور في ذلك، فلا يجوز ان ينساق البعض وراء محولات معادية لتوتير الاجواء بين الشعبين الشقيقين، لان ذلك يضر بالمصلحة المشتركة التي باتت تتعزز بحكم الكثير من التقاطعات، والتي يجب ان تسير باتجاه التآخي والتعاضد من اجل مصلحة مصر ومصلحة شعبنا الفلسطيني، الذي هو بأمس الحاجة لدور الشقيقة الكبرى مصر، والى وزنها وحكمتها ودورها التاريخي الذي حافظ على المشروع الوطني، هذا الدور الذي لم يتخاذل او يتراجع عن دوره في محاربة المشاريع المشبوهة، وبخاصة تلك التي كان هدفها ولا زال الحاق قطاع غزة بمصر، او انفاذ مشروع الدولة المؤقتة، للقضاء على حلم الدولة المستلقة والعودة .
لقد كانت التفاعلات الفلسطينية الرسمية والشعبية المنددة والمستنكرة والرافضة للجريمة البشعة امر في غاية الاهمية، لكن الامر يجب ان يعالج ما هو اكثر جوهري، حيث باتت المصلحة الوطنية الفلسطينية تستدعي اعادة النظر في الكثير من السلوكيات التي انتهجها البعض افرادا وجماعات، والتي شكلت مسا بسيادة مصر، او تلك التي نمت شعور الغبن لدى المواطن المصري، لتستغل كما جرى لإلصاق التهمة بشعبنا .
هنا اقول من شأن هذه المجزرة الدموية، ان تُستغل نتائجها مصريا وفلسطينيا للتعجيل في انهاء حالة الانقسام الفلسطيني واستعادة الوحدة، ولتعزيز العلاقة بين الشعبين، وفي ذات الوقت يمكن ان يستغلها البعض لتكريس واقع الانقسام وترسيمه، لتحقيق مصالح شخصية وفئوية، هذا بالتأكيد يعتمد على الخطوة القادمة التي سيتخذها الرئيس المصري وحكومته الجديدة، والتي سيحكمها طوق الاتفاقيات الموقعة ومحصلة المصالح الدولية في المنطقة.
غزة – 13/8/2012م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت