المقالة الأولى : الجغرافيا التاريخية لرحلة إبراهيم التوراتية :
يتمثَّل الخلاف بين الفلسطينيين خاصة وبعض العرب من جهة ، وبين بني إسرائيل والصهيونية من جهة أخرى ؛ في دعوى كل منهما بأحقيته في ملكية أرض فلسطين . فقد نشط الخلاف بينهما عميقا جدا وواسعا جدا منذ زمن بعيد , ولكنه اشتد وتفاقم حين اغتصب الأسرائيليون أرض فلسطين بمساعدة بريطانيا – دولة الانتداب - وطردوا أهلها منها ، فحلَّت بهم النكبة سنة 1948, وتبعثروا في كثير من دول الجوار وكثير من الأصقاع المتباعدة ، وحلَّ محلهم يهود جيء بهم من أقاصي العالم محتلين مستوطنين ...ولكن الوطن المسلوب ما زال جمرة نار تتقد في صدور اللاجئين الفلسطينيين المشردين في أرض اللجوء والشتات ، يؤازرهم قليل من إخوانهم العرب الذين يمدونهم بقوامات الصمود والتحدي لمواجهة كل مؤامرات تصفية القضية الفلسطينية . لقد أخفقت هيئة الأمم في اتخاذ قرار ضد إسرائيل وتنفيذه وتخلَّت حكومات الجامعة العربية عن واجباتها القومية ، وتراجع المؤتمر الإسلامي العالمي في تصدِّيه للصهيونية وفي دفاعه عن الحق العربي الفلسطيني , بل أظهر كثير من تلك الدول صورا مختلفة من التقاعس والتقصير في واجباتها ، والتنصل من مسئولياتها إزاء هذا الحق . وسارت السلطة الفلسطينية على طريق التفريط والتنازل عن ركائز القضية مقابل حفنة من الدولارات يتمتع بها مَن تبقى مِن رجالات المنظمة ومَن توالد على الساحة من عصابات – معذرة ، من حكومات السلطة المتعاقبة . ولكن الشعب الفلسطيني - صاحب الدار والديار والأرض العمار – لم ينسَ حقه التاريخي في فلسطين العربية الكنعانية ، ولم ولن يتنازل عنه مهما قدَّم المستسلمون اللاهثون وراء السراب من الزعماء وكبار المفاوضبن من تنازلات ، وتخليهم عن مبدأ التحرير الكامل الذي من أجله أنشئت م . ت . ف . وهكذا عندما تسكت المدافع النيرانية , تنطلق المدافع اللسانية فيزداد الجدل ويستنجد كل طرف بما لديه من أدلة تدفع ببطلان الطرف الآخر، وتدعم موقفه أمام محكمة الضمير ...وليس سهلا أن يستدعي كلا الطرفين الخصمين ذاكرة التاريخ الموغل في القدم واستنطاق الشهود لإثبات الحقوق ، ونفي ادعاء الخصم . ولعل إسرائيل كانت حاذقة في دعاياتها وإعلامها الموجه لاستقطاب أكبر عدد من المنتصرين لها والمناصرين لادعاءاتها سواء كانوا يهودا أو مسيحيين غربيين أو عرباً غرَّرَتْ بهم الدعاية الصهيونية ، فانحازوا إلى بني إسرائيل مصدقين دعواهم بإثبات حقهم في ملكية الأرض المقدسة ...معتمدين على قدسية التوراة وما جاء فيها من نصوص تاريخية وجغرافية تحكى قصة نشوء فكرة الوعد الإلهي الذي بموجبه سُرقت فلسطين وتمَّ إلصاق نسبتها إلى بني إسرائيل وغيرهم من أصحاب الديانة اليهودية منذ أن وطئت قدما سيدنا إبراهيم عليه السلام أرض فلسطين ، رغم أن إبراهيم ( 2000 - 1825 ق.م تقريبا ) لم يكن من بني إسرائيل ، فإسرائيل الذي هو يعقوب ( 1840 - 1693 ق.م تقريبا ) هو نفسه حفيد إبراهيم ، ويفصل بينهما حوالي مئة وثلاثين سنة تقريبا . كذلك لم يكن إبراهيم يهوديا ، لأن بينه وبين اليهودية - ديانة موسى المتوفى 1250 ق.م تقريبا - أكثر من خمسمائة وخمس وسبعين سنة . ثم كتبت التوراة بيد الكاتب عزرا وغيره من الكهنة في المنفى بعد السبي البابلي ، أي بعد وفاة موسى بثمانمائة سنة . ومع هذا كله سندفع ببطلان دعوى بني إسرائيل أمام محكمة التاريخ ونطلب من هيئة المحكمة الموقرة أن تستدعي التوراة ( شاهد نفي ) لسماع أقوالها , راضين بما تدلي به من أقوال وأخبار مع احتفاظنا بحقنا في التشكيك بمصداقية وعصمة التوراة التي بين أيدينا ...لأن بني إسرائيل قد انحرفوا عن دينهم فحرَّفوا الكلام عن مواضعه باعتراف كتبة توراتهم . ونحن نرجوا أن يقبل بنو إسرائيل بشهادة توراتهم التي بين أيديهم ؛ للفصل فيما شجر بيننا وبينهم من خلاف وأن يخضعوا لقول الحق والحقيقة ...فلا مناص من ذلك بعد أن أخفوا التوراة الأصلية ، وبعد أن صَمُّوا آذانهم وأغمضوا أعينهم وأشاحوا وجوههم وأيديهم عن آيات القران الكريم لعدم اعترافهم به وعدم تصديق ماجاء فيه ...فليستجيبوا إذن لتوراتهم التي بين أيديهم ، وليذعنوا لما تقره من أخبار الأقدمين وشهادة الأولين التي نتعشم أن تأخذ بها محكمة التاريخ وتبني عليها أحكامها العادلة . وإليكم الوقائع :
***
يزعـم بنو إسرائيل وأحفادهم من بعدهم إلى أيامنا هذه - أن أرض كنعان " فلسطين " هي أرض آبائهم وأجدادهم الأولين ، ويدَّعُون أنها أرض ميعادهم حسب أقوالهم التي تقوَّلوا بها على الله سبحانه - بأن الله أعطاهم وعدا باستملاك أرض كنعان ( أرض الفلسطينيين ) بعد أن طرد الرب شعبها منها وأخلاها لهم من ساكنيها ليدخلوها ...فدخلوها يتقدمهم رب الجنود الذي تصوره التوراة أنه قائد آدمي يشهر سيفه لقتال الأعداء –الكنعانيين – ليأتي بغيرهم غرباء عنها لِيَحِلُّو فيها محلهم .
تحدثنا التوراة أن أبرام (إبراهيم) رحل من موطنه ومسقط رأسه (أور الكلدانيين ) في جنوب بابل بالعراق ، ومعه أبوه ( تارح ) وزوجه ساراى( سارة ) بطلب من الرب ، ورافقه ابن أخيه ( لوط ) وقليل من الخدم والعبيد مصطحبين معهم قطيعا من المواشي والأغنام ؛ متوجهين جميعا صوب ( حاران ) بسوريا الآن , ويُقدَّر أنه قضى في حاران مدة لا تقل عن سنة مات فيها أبوه تارح ودفن هناك .
" وهذه مواليد تارح . وَلَدَ – أنجب - تارحُ أبرامَ و ناحورَ و هارانَ . و وَلَدَ هارانُ لوطاً . ومات هاران قبل تارح أبيه في أرض ميلاده في أور الكلدانيين . و اتخذ أبرام و ناحور لأنفسهما امرأتين . اسم امرأة أبرام ( ساراي ) واسم امرأة ناحور ( مِلكَة ) . و كانت ساراي عاقرا ليس لها ولد . و أخذ تارحُ أبرامَ ابنَه و لوطا بن هاران ابن ابنه , و ساراي كنته امرأة أبرام ابنه . فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان . فأتوا إلى حاران و أقاموا هناك . و كانت أيام تارح مئتين وخمس سنين , و مات تارح في حاران ." تكوين . إصحاح 11 : 27- 33 . ثم خرج أبرام من حاران متوجها إلى أرض الكنعانيين . وكانت شكيم ( تل بلاطة بالقرب من نابلس ) هي أول محطة لأبرام توقف فيها في أرض كنعان . " فذهب أبرام كما قال له الرب , و ذهب معه ابن أخيه لوط , و كان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران , فأخذ أبرام ساراي امرأته , و لوط ابن أخيه , و كل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران , و خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان , فأتوا إلى أرض كنعان . " تك / صح 12 : 4- 5 . إذن فالأرض التي رحل إليها إبراهيم وحط رحاله فيها كانت تعرف بأرض كنعان نسبة إلى سكانها الكنعانيين إحدى القبائل العربية الساميَّة ؛ المالكين لها , الساكنين فيها ، الموجودين على أرضها كيانا قوميا مستقلا من الناحيتين الجغرافية و السياسية ، يعرفها كل من المصريين والفرس والبابليين والآشوريين وبني إسرائيل بأنها أرض كنعان قبل أن تطأها أقدام أبرام (إبراهيم) ومَن معه من أسرته وعشيرته . و هذا بنص التوراة . " واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم ( نابلس ) إلى بلوطة مورة , وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض ." تك / صح 12 : 6.
وشهد شاهدهم , بل شهدت توراتهم نفسها واعترفت على لسان إبراهيم بوجود الكنعانيين في الأرض حين دخوله فيها . وهذا إقرار منه صريح وبصوت واضح لا لبس فيه بأن الكنعانيين يسبقونه في تواجدهم على أرض كنعان , وهم المالكون لأرضهم – فلسطين - قبل وصول إبراهيم إليها وقبل أن يدخلها بمئات السنين وربما الآلاف . وسنمرُّ على الكثير من شهادات التوراة التي تدحض ادعاءات بني إسرائيل واليهود الغربيين الغرباء ؛ الذين لا ينتسبون لإسرائيل ، وتـنفي مزاعمهم بحق ملكيتهم لأرض فلسطين ، وتثبتها للفلسطينيين الكنعانيين العرب وحدهم ولا شريك لهم . ولايغيِّر من هذه الحقيقة شيئا مهما تقوَّل كاتب هذا السفر (التكوين) الذي يقحم آية من عنده مفادها : أنه في بلوطة مورة بالقرب من شكيم " ظهر الرب لأبرام وقال : لنسلك أعطي هذه الأرض " . تك / صح 12 : 7 . فأيُّ ربٍ يقصد كاتب هذا السفر , هل هو رب الجنود أو هو رب الأرباب أو هو يهوه (الإله القومي لليهود ) أو هو ألوهيم أو هو ملاك الرب ، أم هو الله سبحانه وتعالى ؟! . ثم نتساءل : مَن هم نسل إبراهيم ؟ . التوراة تخبرنا أن إبراهيم تزوج من ثلاث نساء : الأولى : سارة ابنة عمه هاران أمُّ اسحق ، والثانية : هاجر أميرة منف المصرية أمُّ إسماعيل ، والثالثة : قطورة العربية الكنعانية التي أنجبت من إبراهيم ستة أبناء ذكور. أليس هؤلاء الأبناء الثمانية الذين ولدوا له من أزواجه الثلاث هم وأولادهم وأحفادهم و ذرياتهم جميعا من نسله ؟ , أم أن التوراة تقصر نسل إبراهيم على اسحق ابن سارة وعلى واحد فقط من ابنيْ اسحق وهو يعقوب (إسرائيل ) وعلى أبنائه الأسباط الإثنيْ عشر ، الذين هم في مجموعهم بنو إسرائيل ، فتنتقل هذه التسمية إلى أنسالهم من بعدهم ؛ فعُرفوا بها ، مع استبعاد عيسو بن اسحق – وهو توأم يعقوب - وأبنائه وأنساله الآدوميين الذين سكنوا الأرض الواقعة شرقي نهر الأردن . وتخبرنا التوراة أن سبب حرمان عيسو من ميراث أبيه إسحق لأنه تزوج من بنات الكنعانيين ، كما أن السبب في استبعاد عمه إسماعيل من ميراث أبيه إبراهيم هو كونه ابن امرأة مصرية غريبة عنهم . إذن كل هؤلاء وأولئك كانوا من نسل إبراهيم ولهم جميعا الحق في ميراث إبراهيم ( كل ولد عن والده ) , وهـذا هو الفهم الحقيقي لكلام الرب المزعوم في التوراة ( لنسلك أعطى هذه الأرض ) , إذ لم تخاطب التوراة إبراهيم قائلة : ( لنسلك يا إبراهيم الذين ولدتهم زوجك سارة فقط أعطي هذه الأرض ) ، ولم تخاطب التوراة سارة قائلة لها : ( لنسلك فقط يا سارة أعطى هذه الأرض ، وأَحرم أولاد ضرتيْـكِ : هاجر وقطورة ) , ولم يخاطب الرب إسحق قائلا : ( لنسلك من يعقوب فقط ولأبناء يعقوب أعطي هذه الأرض ) مع حرمان عيسو الشقيق التوأم ليعقوب مما تركه أبوهما إسحق حسب زعم الكتبة وما كتبوه في توراتهم ، مع يقيننا بافتراء هذا التقول على الله العادل ، وما كان ذلك إلا من صنع (عزرا) كاتب التوراة وأمثاله . و إذا كان ذلك يقينهم فلا بأس من أن نطالب بحقنا في ميراث جدنا إبراهيم حسب الشريعة الموسوية ، ولا يُلزمنا أحد أن نترك حصتنا من ميراث جدنا إبراهيم أو نتنازل عنها لأحد . فلنا حق فيه تماما كما لإسحق ويعقوب وأبنائه من بني إسرائيل ... والحمد لله أن جدنا وسيدنا إبراهيم عليه السلام قد ورَّثـنا معرفة الله ووحدانيته والإيمان به وعبادته . وما الأرض المتنازع عليها كلها إلا حكرا على أصحابها العرب الكنعانيين حسب المقاييس العلوية والقوانين الدنيوية . و ليس من حق أحد من فلسطينيي اليوم أوفلسطينيي الغد أن يتنازل عن ذرة رمل لبني إسرائيل . فإذا فعلنا ذلك فإننا نقدم لهم اعترافا وإقرارا قانونيا وتاريخيا بحقهم في مشاركتنا في امتلاك الأرض ، ثم نفتح لهم بابا قانونيا - مازال موصدا في وجوههم - للمطالبة بالكل ، معتمدين على تنازلنا بالجزء مهما كان قليلا . أرجو أن يعي ذلك ويتنبه له مفاوضونا وسياسيونا ، فيكفُّوا عن التفريط بأرض من فلسطين للإسرائيليين فيخسروها قطعة قطعة على طاولة القمار السياسي – استغفر الله ، على طاولة المفاوضات .
نستكمل الرحلة بحسب الخريطة الجغرافية التي رسمتها التوراة لإبراهيم الذي دخل الأرض حتى وصل إلى شكيم التي انتقل منها إلى بلوطة مورة ، فـوجد فيها الكنعانيين أصحاب الأرض يعمرونها ، وتـدَّعي التوراة أن الرب ظهر فيها لإبراهيم ، ووعـده بإعطاء الأرض لنسله ، وكان هذا أول ظهور للرب ... " واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة ، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض . وظهر الرب لأبرام وقال : لنسلك أعطي هذه الأرض ". تك / صح : 6 – 7 . فبنى هناك مذبحا للرب اعترافا له بالفضل ، ثم انتقل إلى الجبل شرقي بيت إيل ( بيتين شرقي القدس) , ونصب خيمته وبنى هناك مذبحا للرب , ثم ارتحل ارتحالا متواليا نحو الجنوب (النقب) . فلينظر القارئ إلى الأدلة الواهية التي يستدلُّون بها والحُجج المصطنعة التي يحتجُّون بها على مِلكيتهم للأرض التي يدخلونها ، ذلك أنهم يعتقدون أن الأرض التي يظهر فيها الرب لأحد آبائهم فهي لهم ، وإذا بنى أحد آبائهم مذبحا للرب في أرض أو ذبحوا فيها " تَـَقـْـدِمَة " يقدمونها للرب صارت لهم ، أو إذا مات أحد آبائهم أو إحدى أمهاتهم ودُفِن فيها أصبحت لهم ، ويقيمون على رأس القبر عمودا شاهدا على الميت المقبور فيه وقد تكرر ذلك في بيت إيل ( بيتين : شرقي القدس ) وفي بلوطات ممرا وحقل المكفيلة بالخليل ، وفي بلوطة مورة وشكيم بنابلس ، وفي إفراتا على طريق بيت لحم وفي غيرها كثير .
بعد دخول أبرام أرض كنعان اجتازت البلاد فترة من فترات القحط المعتادة أدت إلى نقص في الطعام والأعلاف وجدب في المراعي , وقد كان أبرام في الغالب على علم بأن لدى مصر كميات وفيرة من الطعام , فقصدها حيث عبر الجزء الشمالي من شبه جزيرة سيناء , وربما اتجه إلى طريق شور قاصدا أرض مصر حيث وجد فيها الخير الوفير ، يغترف منه ما يكفي لإعالة عائلته ورهطه ؛ " وحدث جوع في الأرض , فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك . لأن الجوع في الأرض ( أرض كنعان ) كان شديدا " تك / صح 12 : 10 .
ولما اقترب أبرام من أرض مصر، وقبل أن يدخلها قال لزوجه ساراي (سارة) : أعلم يا ساراي أنك ذات حسن وجَمال .. فإذا رآك المصريون سيفتنون بجمالك وسيطمعون فيك . فإذا عرفوا أني زوجك فإنهم سيقتلونني ويبقون عليك ... فالأفضل لي ولك أن تقولي أني أخوك وأنت أختي... لعلني أحصل منهم على خير وفير بسببك . انظر تك / 12 : 10-13 . و فعلا رآها المصريون واُعجِبوا بها أيما إعجاب ، وهُرعوا إلى فرعونهم - الملك يخبرونه بجمالها وحسن منظرها . فاستقدمهما الملك ، ولما سأله عن صلته بها ، أخبره أنه أخوها ، وهي أخته . فاتخذها فرعون لنفسه زوجا ، وأعطى أبرام خيرا كثيرا بسببها ، فصار له غـنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال . وعندما غضب الرب على فرعون بسبب ساراي فضرب بيته ضربات عظيمة ؛ دعا فرعون أبرام وعاتبه ، وأخذ يلومه لأنه (كذب عليه) – حاشاه - بقوله إنها أخته ، ولم يخبره أنها امرأته... وأطلقهما وطلب منهما مغادرة البلاد فغادراها تحت حراسة خاصة أوصى بها فرعون جنوده . انظر تك / صح 14- 20 . وسيرى القارئ أن هذه القصة تتكرر ولكن مع ( أبيمالك ) ملك الفاسطينيين في مدينة ( جِرار) كما يرويها كاتب آخر من كتبة التوراة من غير أن يطَّلع أحدهما على ما كتب الآخر ، ودون تنسيق بينهما . وسنذكرها في حينها ليقف القارئ على حرص اليهود على المنفعة الذاتية بتحقيق المصالح الخاصة ، وجمع المال بشتى السُّبل ، ولو كان ذلك على حساب العِرض والشرف . فكثرت أملاك إبرام ولوط من الغنم والبقر والخيام ، ولم تحتملهما الأرض أن يسكنا معا , إذ حدثت مخاصمة بين رعاة أبرام ورعاة لوط عندما وصلوا إلى بيت إيل ، " وكان الكنعانيون و الفرزيون حينئذ ساكنين في الأرض " تك / صح 13: 7. فاقترح أبرام على لوط أن يفترقا قبل أن يَدُبَّ الخصام بينهما ، وطلب منه أن يعتزل عنه ، فاختار لوط لنفسه دائرة الأردن ، فنقل خيامه وارتحل شرقا وسكن في سدوم ، وكان أهل سدوم أشرارا . وسكن أبرام في أرض كنعان في مناطق جبل أفرايم والنقب . " أبرام سكن في أرض كنعان " تك / صح 13- 12 .
" و قال الرب لأبرام بعد اعتزال لوط عنه , ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالا وجـنوبا وشرقا وغـربا , لأن جميع الأرض التي أنت ترى ، لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد , وأجعل نسلك كتراب الأرض , حتى إذا استطاع أحد أن يَعُدَّ تراب الأرض فنسلك أيضا يُعَدُّ . قـم امش في الأرض طولها وعرضها ,لأني لك أعطيها . فنقل أبرام خيامه ، وأتى وأقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون (الخليل) . بنى هناك مذبحا للرب ." تك / صح 13 : 14– 18 . نلاحظ من الجُمَل التوراتية السابقة ؛ أن التوراة قد نقلت الرب المفترض فيه العدل والرحمة والإنصاف إلى مخلوق يتصف بالظلم والشراسة والانحياز الكامل لطرف ضد آخر، بل والاعتداء على طرف لصالح طرف آخر، كما سطَّره كتبتها ، مظهرين ربهم بطباع البشر, نازعين عنه صفات الربوبية المُنزَّهة عن كل النقائص ، فأنزلوه إلى درك هابط من الأفعال والسلوك... فهذا الرب الذي يخصُّهم ، هو من صنعهم ومُسَيَّر لخدمة مصالحهم ، يتقدمهم مُشهِراً سيفه لمقاتلة أعدائهم .
لنعد إلى التوراة حيث يروي كاتبها حركة التنقلات ويرصد حالة التغريب التي عاشها إبراهيم " و تغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة " تك / صح 21 : 34 .
انظر إلى لفظة ( تغرَّب ) التي تبين لنا كيف كانت عيشة إبراهيم في أرض هو غريب عنها وهي غريبة عليه . عاش غريبا في أرض لم يأتها من قبل ، ولم يعرف مدنها وقراها ولم تطأ قدماه صحراءها ولا سهولها ولا جبالها ... و لم يعرف أحدا من أهلها... فأحس بالغربة وشعر بالوحشة بعد مفارقته أور الكلدانيين حيث وُلِد و نشأ وعاش ، وحيث فيها الأهل والجيران والصَّحب والخِلان .
أظن أننا نكتفي في هذه المقالة بما نقلناه – وهو غيض من فيض - من التوراة بالنص الحرفي عن الراصد التاريخي والجغرافي للاستدلال به وبكثير غيره بأن الأرض الفلسطينية المتنازع عليها هي أرض كنعانية لأصحابها العرب الكنعانيين , ولمالكيها الفلسطينيين , وأن إبراهيم ومن كان معه من قومه جاءوا إلى فلسطين غرباء طارئين عليها حيث كانت القبائل الفلسطينية السبعة تمتلكها وتسكنها . وإن قارئ التوراة ليجد في مواضع كثيرة منها أن الرب القومي لليهود قد طرد سكان أرض فلسطين وأخرجهم منها ، وأحل مكانهم الغرباء . وهوالرب الذي اختار أبرام وأخرجه من أور الكلدانيين وجعل اسمه إبراهيم . انظر نحميا / صح 9: 7 . وأنت هوالرب الذي " قطعتَ معه - إبراهيم - العهد أن تعطيه أرض الكنعانيين والحثيين والاموريين والفرزيين واليبوسيين والجرجاشيين ويعطيها لنسله ، وقد أنجزتَ وعدك لأنك صادق ، ورأيتَ ذل آبائنا في مصر وسمعت صراخهم عند بحر سوف " . نحميا / صح 9 : 8 - 10. " قال يشوع : بهذا تعلمون أن الله الحيَّ في وسطكم ، وطرداً يطرد من أمامكم الكنعانيين والحثيين والحويين والفرزيين والجرجاشيين والأموريين واليبوسيين " . يشوع / صح 3 : 10– 11. فهل هذا هو الله رب العالمين – سبحانه وتعالى المُنزَّه عن فعل الشروالسوء ؟.* وإلى لقاء مع المقالة الثانية إن شاء الله ... [email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت