قيادة الرأي العام في المجتمع المنكوس

بقلم: محمد بن علي المحمود

جريدة الرياض السعودية
الخميس 2 ذو الحجة 1433 هـ - 18 اكتوبر 2012م - العدد 16187
قيادة الرأي العام في المجتمع المنكوس
محمد بن علي المحمود
زمن التنوير الذي لايزال العالمُ يتفيأ ظلال قيمه ومُثله العليا، لم يكن (تفاحة حظ) سقطت مصادفة من السماء، وإنما هو نبتة أرضية صنعها فلاسفة التنوير بالتدرج، بعد أن بذلوا في سبيلها بحارا من الدموع، وأنهارا من الدماء .
والنظريات الفلسفية الكبرى التي همينت على مسيرة الوعي (ومن ثم على مسيرة الفعل) في القرن العشرين، صنعها الفلاسفة العظام في القرن التاسع عشر، ورسّخها تلاميذهم بدايات القرن العشرين؛ حتى تفرع عنها مدارس ومذاهب يصعب حصرها. وهي وإن داخلها كثير من التحوير والتعديل (بفعل عامليْ التفرع والتطبيق)، فقد بقيت مشدودة إلى رؤى أولئك المفكرين الكبار الذين لم يكن يزاحمهم الوُعّاظ والكهنة ودجاجلة السياسة في صناعة الوعي الجديد، الملائم لعصر جديد.
من يتأمل وضع العالمين: العربي والإسلامي، يجدهما مثالا واضحا لما يمكن تسميته بالمجتمع المنكوس. وأقصد به المجتمع الذي يصبح فيه العقل مجرد عضو هامشي من الأعضاء ؛ نتيجة تهميش الفعاليات العقلية، وتحويل دعاة العقل، وحاملي هم التعقل، والمنظّرين له، إلى نُخب معزولة عن كل مسارات التأثير في الوعي العام .
هذا ما حدث هناك : في العالم المتحضر، إذ على الرغم من كل الجهود الاستثنائية التي بذلها السياسيون والقادة العسكرين، من دكتاتوريين وديمقراطيين، في سبيل بلورة تلك الرؤى والنظريات؛ إبان موضعتها في الواقع، إلا أن انتماءها لجذرها الفكري / الفلسفي بقي هو الأشد تأثيرا بما لا يُقاس. وبذلك لم تكن الجهود الاستثنائية في مجال التطبيق (وهو تطبيق تأويلي مشدود بقوة إلى استحقاقات الواقع)، إلا روافد ثانوية للأفكار والرؤى والنظريات التي صنعاها أولئك الفلاسفة العظام .
هذا هو الأصل، هذا هو التوجه السائد، في المجتمعات المتحضرة التي نقلتها أعظم العقول البشرية من دركات التخلف والانحطاط، إلى أعلى درجات السمو الحضاري / الإنساني الذي لم يسبق للبشرية أن لامست سقفه في يوم من الأيام . وهو الأصل يقيناً، رغم كل صور الاستثناء، أقصد الصور التي يتلمسها - بشغف جنوني - كل من يريد هجاء الحضارة الغربية -؛ جراء عُقَد النقص التي تجعل من صاحبها شاعرا شعبويا (وربما شعبيا!)، ولكن بما لا يتعدى رتبة : شويعر في فن الهجاء .
العقل هو المُدبّر، وعملية التدبير هي وظيفة العقل حصرا؛ وليس ثمة شريك آخر له في التدبير، كما أن ليس له من وظيفة سواها. ومن ثم، فالمشتغلون بالعقل، وعلى العقل، هم المنوط بهم تدبير الجسد الإنساني على مستوى الاجتماع الإنساني (بداية من الوعي، وانتهاء بالفعل العبني المباشر)، مثلما هو منوط بالعقل الفردي تدبير الجسد: جسد الفرد .
الفرق الجوهري بين المجتمعات المتخلفة، والمجتمعات التي قطعت أشواطا في مسيرة التقدم الإنساني، يكمن في أن الأولى (= مجتمعات التخلف) تسير وفق ما تمليه عليها أردأ غرائزها؛ بعيدا عن أية فعالية عقلية، بل إن العقل ذاته يصبح لديها أداة من أدوات الغرائز السفلى، بحيث يتوجه، ويتحدد، بل ويتعقل؛وفق متطلبات الغريزة ؛ مهما كان نوعها . بينما الثانية (= مجتمعات التقدم) تسير وفق ما يتطلبه المنطق العام للعقل الإنساني، وتصبح الغرائز - في هذا السياق العقلاني - محكومة بمنطق التعقّل العام، أي أنها - في المؤدى الأخير - تخدم العقل؛ حتى بفضاءاتها اللامعقولة، أو حتى بفضاءاتها الفوضوية .
فمجتمعات التقدم / التحضر، تستخدم العقل في مسارات التعقل الحقيقية، ولا تستخدمه وتستنفذ أرقى طاقاته الحيوية ؛ ليكون أداة من أدوات التجهيل وتزييف الوعي، كما هي الحال في مجتمعات التخلف والانحطاط، أقصد المجتمعات التي يبدو فيها المجتمع منكوسا؛ من حيث علاقة العقل فيه ببقية الأعضاء .
من يتأمل وضع العالمين: العربي والإسلامي، يجدهما مثالا واضحا لما يمكن تسميته بالمجتمع المنكوس. وأقصد به المجتمع الذي يصبح فيه العقل مجرد عضو هامشي من الأعضاء ؛ نتيجة تهميش الفعاليات العقلية، وتحويل دعاة العقل، وحاملي هم التعقل، والمنظّرين له، إلى نُخب معزولة عن كل مسارات التأثير في الوعي العام .
وفي المقابل يُصبح دعاة الجهل والتقليد، والمتواضعون في مواهبهم وقدراتهم ومعارفهم، هم المتحكمين في مسارات الوعي الوعي العام. ومن ثم، فهم الذين يُحددّون طبيعة الحاضر في راهنيته، كما يرسمون - على أهوائهم - معالم المستقبل القريب والبعيد في آن .
المجتمع المنكوس (كمجتمعاتنا العربية خاصة، والإسلامية عامة)، هو المجتمع الذي تتحكم غرائز الغوغاء بعقله (بل تلغي العقل في معظم مجالات فعله)، وليس العكس؛ كما هو الوضع الصحيح .
بينما تسود النظريات الفلسفية الكبرى، والأفكار العميقة التي أخذت حظها من التمحيص العقلي؛ عبر وسائل الجدل والحوار والنقض والتفكيك، وذلك في العالم المتقدم / المتحضر، تسود - وعلى نحو تقابلي - مقولات التقليد، وحِكم التبليد، والتصورات الخرافية، على يد دعاة النقل والحرفية النصوصية، أي على يد حاملي إرث الاجترار والدجل والتخريف والتزييف، في المجتمع المنكوس، والذي هو تحديدا : عالم التخلف / المتخلفين .
يُوجد في عالمنا العربي / الإسلامي كثير من المشتغلين على مسارات الفعل العقلاني، يُوجد عقلانيون، ومُفكرون، ومُتوفرون - بجدية بالغة - على استحضار أحدث النظريات العلمية والفلسفية، يوجد مُبدعون في تخصصاتهم الدقيقة، يوجد سياسيون من ذوي الرؤى الشمولية، يوجد مَهمومون بالإصلاح والنزاهة ومكافحة الفساد، يوجد أحرار متمردون على كل محاولات التطويع وعلى كل ممارسات الاستعباد .. إلخ، كل هذه الصور الإيجابية موجودة، ولكن - وهنا مأساوية الصورة المقلوبة - يبقى التأثير الأعمق والأشمل والأدوم (بل ويكاد يكون هو التأثير الأوحد)، هو تأثير ذوي الجهل من سدنة النقل، أولئك الذين اتخذوا العقل عدوا لدودا وأبديا؛ إلا عقلاً يمتهن شرعنة الخرافة ؛ في الوقت الذي يمتهن فيه هجاء العقل الحديث .
تستطيع أن تقوم باختبار بسيط؛ يكشف لك عن أبعاد الكارثة في المجتمع العربي / الإسلامي المنكوس، المجتمع الذي يمشي على رأسه، بينما باطن قدميه العاريتين الشاحبتين إلى الأعلى ! .
الاختبار سهل، استحضر الآن أكثر الأسماء فعالية في بلورة الرأي العام العربي / الإسلامي، استحضر عشرين أو ثلاثين اسماً من تلك الأسماء التي ترى أنها تمتلك القدرة على توجيه خيارات الجماهير الفكرية . لن تجد بينها اسما واحدا يمتلك الحد الأدنى من شروط المفكر الواعي، بل على العكس، ستجد الضحالة المتناهية حد الفضيحة، ستجد بدائية التفكير وخرافيته الصارخة، ستجد الغوغائية في أشد صورها عنفا وفوضوية واحتفاء بالشعارات الفارغة التي تلهب حماس الجماهير.
بل ستجد ما هو أعجب، وأغرب، وأعمق في مأساويته . ستجد أن الشخصية المؤثرة في الوعي العربي يزداد حجم تأثيرها، ويرتفع مؤشر تعلّق الجماهير بها (ومن ثم قدرتها على الإسهام في صياغة الوعي العام، والذي لابد أن يؤثر في شتى مستويات اتخاذ القرار)؛ كلما كان رصيدها من الضحالة الفكرية، ومن الفوضوية المنطقية، ومن الغوغائية الجماهيرية أكثر . وبالعكس تتضح المأساة وتكشف عن نفسها، إذ يتراجع مستوى تأثير الشخصية العامة ؛ كلما كانت أشد عقلانية، وأكثر علمية، وأقدر على رؤية مكونات الفكر، ومكونات الواقع، بشمولية أعمّ وأحكم .
إنك لو جمعت كل مستويات التأثير (بما فيها متتاليات التأثير اللامباشرة) التي أحدثها كلٌّ من : عبدالوهاب المسيري، ومحمد عابد الجابري، وعبدالله العروي، وناصيف نصار، والطيب تيزيني، وهشام جعيط، وعبدالرحمن بدوي، وعلي حرب، وإدوارد سعيد، وحسن حنفي، ثم قارنتها بتأثير واعظ واحد، واعظ فضائي ساذج ؛ لسقط كل هؤلاء بكل صور المقارنة ؛ ولظهر الواعظ الفضائي التقليدي - الجاهل حتى بأبجديات تخصصه - أبعد أثرا، وأقدر على توجيه خيارات الرأي العام من كل هؤلاء مجتمعين .
إن تأثير مثل هذا الواعظ التقليدي - المتواضع جدا في مواهبه وقدراته ومعارفه، والجاهل جدا حتى بأبعاد خرافاته التي يستبطنها أو التي يروج لها - ليس منصباً على القطاعات الشعبية من الأميين وشبه الأميين، بل إن أثره أكبر وأعمق حتى على الأغلبية الساحقة من حملة الشهادات العليا في المجتمع المنكوس . بل لقد رأيت بنفسي كيف أن معظم هذه الأسماء الفكرية الكبرى في عالمنا العربي مجهولة لأساتذة جامعيين أعرفهم بأسمائهم، في الوقت الذي يكاد فيه هؤلاء (الأساتذة الأكاديميون !) أن يحفظوا تفاصيل برنامج الواعظ الفضائي (النجم!)، وبعضهم يردد كثيرا من مقولاته المكرورة كحِكم مأثورة، بل وكثيرا ما يمنحونه - بسخاءٍ مَدفوعٍ بغباء - أرقى عبارات المديح والتقدير .
ماذا يعني هذا في مجتمعاتنا العربية / الإسلامية التي لا تزال ترزح تحت وطأة التخلف والجهل والاستبداد؟ ماذا يعني هذا في مجتمعات بدأت - للتو - تعي أهمية التحوّل، وضرورة التغيير؛ ولكن لا تزال تجهل - في سياق وعيها العام - شروط واستحقاقات هذا التحول وهذا التغيير؟ ماذا يعني هذا في مجتمعات لا تزال أغلبيتها الساحقة غائبة ومُغيبة عن حقيقة بؤس واقعها، إذ لا تزال لم تعترف - بعد - بمرضها التاريخي العضال الذي أقعدها كل هذه السنين الطوال ؟
يعني كل هذا، أن مجتمعاتنا المصابة بأعطاب مستعصية، أعطاب تضرب في تربة الماضي السحيق، لاتزال تتداوى بعللها، لاتزال تطلب الشفاء في مكامن دائها، لاتزال تطلب السلامة في جحور الأفاعي، لاتزال تتطبّب - جاهدة، وبحماس شديد، وثقة عمياء - على أردأ وأسوأ وأسخف وأجهل الأطباء الفكريين؛ حتى أصبحت لا تزيدها المُداواة إلا مزيدا من العلل المستعصية؛ لأن الطبيب هنا (= من أنيط به - على مستوى الفكر - وضع مشاريع النهضة : تجاوز الواقع المرضي) ليس إلا النتاج الإجمالي لتراكمات الرؤى المتخلفة، منذ فجر تاريخنا وإلى اليوم . فهو المُكثّف لها، وهو المُروّج لها، وهو المشرعن لها، وهو سادن التاريخ، وكاهن الواقع؛ في واقع لاتزال مشروعيته مشروعية تاريخ؛ لا مشروعية واقع!
للخروج من هذه الأزمة؛ لابد من تصحيح الوضع . فوضعية (المجتمع المنكوس) هي حالة غير صحية، وغير طبيعية أيضا . والتصحيح يبدأ من تصحيح الوضع، أي من الاهتمام بالمشاريع الفكرية الكبرى وبأصحابها، ومن تحويل الأفكار والنظريات والرؤى التي انطوت عليها تلك المشاريع إلى موضوع جدل فكري عام، جدل يتجاوز نطاق النخبة؛ ليصل إلى مستوى الهمّ الجماهيري .
إذا ما سرنا في هذا الطريق، طريق جمهرة الفكر الجاد؛ تصبح العقول الكبرى هي التي تستحوذ على فضاء المعقول الجماهيري (ولا يضير - بعد ذلك - أن يلعب سدنة الخرافة وأعلام التجهيل فى فضاء اللامعقول)؛ فيتحول المجتمع إلى وضعه الصحي والطبيعي؛ حيث العقل المتضمن لنظام المعرفة - بكل أنساقه - هو الذي يقود الجسد: جسد الفرد، كما هو جسد الأمة / المجتمع . فيغدو الرأس هو القائد الأعلى الذي يحدد خطوات الأقدام ويرسم مساراتها، وليست الأقدام - بخطاها الفوضوية وتعطشاتها الكسلى - هي التي ترمي الرؤوس في متاهات الأحلام، أو في فوضى الأوهام، أو في غياهب المجهول..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الرياض السعودية
الخميس 2 ذو الحجة 1433 هـ - 18 اكتوبر 2012م - العدد 16187

محمد بن علي المحمود

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت