المقالة الثانية : ميثاق الرب و وعـده المكذوب :
شكا إبراهيم إلى الرب عقمه ، وأبدى حزنه وهمَّه ، إذ خشي أن يموت ولا ولد له من صُلبه يرثه بعد موته ، وأن ما يتركه من ميراث سيؤول حينذاك لأليعازر الدمشقي مديرأعماله والقـَيِّـم على بيته وأمواله ، فيسمع الرب شكايته ويطمئنه بأن وارثه هو الذي يخرج من صُلبه ، وسيكون عدد نسله كثيرا ، " ثم أخرجه إلى خارج وقال : انظر إلى السماء وعُـدَّ النجوم إن استطعت أن تـَعُـدَّها . وقال له هكذا يكون نسلك " . تك / صح 15 : 5 . وقد مرَّ بنا قول الرب مخاطبا إبراهيم " وأجعل نسلك كتراب الأرض ، حتى إذا استطاع أحـد أن يَـعُـدَّ تـراب الأرض فـنسلك أيضا يُـعَـدُّ " . تك / صح 13 : 16 . فارتاح إبراهيم بكلام الرب وهدأت نفسه وذهب عنه الكدر، وزاد اطمئنانه حين أزال الرب شكوكه . " وقال له – لأبرام – : أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها ". تك / صح 15 : 7 .
" ولما صارت الشمس إلى المغيب ، وقع على أبرام سبات . وإذا رُعْبَة مظلمة عظيمة واقعة عليه . فقال لأبرام : أعلم يقينا أنَّ نسلَك سيكون غريبا في أرض ليست لهم ويُسْـتـَعْـبَدُون لهم . فيذلونهم أربع مئة سنة !. ثم الأمة التي يُسْـتـَعْـبَدُون لها أنا أدينها . وبعد ذلك يَخْرُجُون – أي نسلَك - بأملاك جزيلة . وأما أنت – يا أبرام – فتمضي إلى آبائك بسلام وتـُدْفـَن بشيبة صالحة. وفي الجيل الرابع يرجعون – أي : نسلك - إلى هنا ، لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملا . ثـم غابت الشمس فصارت العتمة ، وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع " . تك / صح 15 : 12-17 . " وفي ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا : لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير؛ نهر الفرات . القـَيـْنـيـيـن والقـنْزيين والقدمونيين والحثـيين والفِرِزِّيين والرَّفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين " . تك / صح 15 : 18– 21 . وزادت التوراة السامرية قبيلة الحُوِّيـيـِّن .
نتوقف عند الجملتين 13-14 من صح 15 في سفر التكوين ، إذ نرجح أن الرب يتحدث فيهما عن قوم موسى في مصر وليس في أرض فلسطين ، وأن المقصود بنسل أبرام هم بنو إسرائيل المقيمون في مصر، وهو من قبيل النبوءة لما سيحدث لهم في الزمن المستقبل ، لأن القـوم الذين يَستعبـِدون بني إسرائيل هم المصريون ، وأن الذي يُـذِل بني إسرائيل هو فرعون مصر ، وأن مدة عبوديتهم وإذلالهم أربع مئة سنة (400 ) . ثم بعد هذه السنين يتدخل الرب فيضرب فرعون وجنوده ويُخـِرج بني إسرائيل من أرض مصر ويخلِّصهم من العبودية . ولكن الرب يعاقـبهم على كفرهم به وارتدادهم عنه بصناعة إله آخر على هيئه العجل يعبدونه من دون الله ، فيتيهون في صحراء سيناء أربعين سنة وهي المدة التي تكـفي بانـقراض الأجيال الثـلاثة التي كفرت وعملت المعصية ، ونشوء الجيل الرابع وهو جيل جديد بريء مما فعله آباؤهم حين تنكروا لنعمة الله عليهم إذ أخرجهم من أرض مصر، وحرَّرَهم من طغيان فرعون وجبروته . ونسترشد على صحة رأينا ما ذكرته التوراة نفسها في موضع آخر . " وأما إقامة بني إسرائيل التي أقامـوها في مصر، فكانت أربـع مئة وثـلاثين سنة " (430) . إذن هذه السنوات هي مـدة إقامتهـم في مصر، وقــد زاد سِفـر الخروج ثلاثـين سنة عن سِفـر التكوين – ( ولعلها سنوات التيه الأربعين وليس الثلاثين ، أو أن عدم التنسيق بين كتبة التوراة فيما يروون من أخبار يجعل رواياتهم تختلف ويصيبها شيء من الشك في مصداقيتها ) - . وبعد انقضاء هذه المدة الزمنية حصل خروج بني إسرائيل من مصر بقيادة موسى عليه السلام حين انشق لهم اليَم ( البحر) بقدرة الله سبحانه ، ولكن أين كانوا يقيمون ؟ هل كانوا في مصر أم كانوا في بلاد السراة جنوب الحجاز ومرتفعات عسير(غرب شبه الجزيرة العربية ) ؟ . وأي بحـر انشق لهم إبان خروجهم ؟ هل هو بحر سُـوف ( البحر الأحمر حاليا ) أم هو فرع النيل بأرض النوبة في شمال السودان ؟ . وإلى أين ذهبوا بعد التيه ؟ . هـذا هـو السؤال !.
نستكمل ما بدأناه ، إذ أراد الكاهن الكاتب أن يـَمُـدَّ في مساحة الأرض التي تَدَّعي التـوراة أن الرب قد أعطاها لأبرام " لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات " ؛ غافلا عن أصحابها المُمثـَّلين بالأقوام العشرة - السابق ذكرهم - الساكنين في هذه المساحة الكبيرة ، وهي بلا شك نظرة احتلالية . وتخطيط صهيوني بحت لابتلاع الأرض بعد طرد أصحابها منها .
ونلاحظ أن هناك عهدا مكررا من الرب لأبرام بأن يعطيه أرض الكنعانيين واليبوسيين وسائر القبائل العربية الفلسطينية , وهناك ميثاق آخر قطعه الرب مع أبرام بإعطاء نسله أرضا أوسع في مساحتها وأشمل في قبائلها , و بهذا الميثاق قد حدد كاتب التوراة البلاد التي تضمها حدود الدولة الصهيونية ( مملكة إسرائيل الكبرى) لتشمل أرض مصر وفلسطين والأردن وسوريا ولبنان وجزءًا من أرض العراق الحالية ، وما فتـئـتْ عيونهم تختلج وهي ترنو إلى يثرب ( المدينة المنورة ) لتتكشف نواياهم عن أطماعهم في الاستيلاء على مزيد من الأرض على حساب أقوام أخرى تـُقـتـَلع من أرضها وتـُطرد منها إلى الضياع .
الأسماء تتغيَّر بطلب من الرب :
يبدو أن كاتب هذا السفر أو كـُتـَّاب التوراة جميعا متعصبون ليهوديتهم بجعلها هوية قومية عرقية رغم مجيء اليهودية ونزول الألواح على موسى نبي اليهود بعد أن أخرجهم من مصر سنة 1290 ق.م لهدايتهـم من الضلال ولتحريرهم من العبودية والعنصرية . إلا أننا نرى ألوانا مختلفة من هذا التعصب العرقي – الديني منتشرة في التوراة ، منها عدم قبول الكهنة أن تظل الأسماء التي نزلت بها التوراة الأصلية كما هي ، فقاموا بتغييرها بأسماء تتفق مع اللغة العبرية القديمة التي هي في الأصل لهجة من لهجات العربية الساميَّة السائدة في ذلك الزمان وفي تلك الجغرافيا الكنعانية ، واتخذها اليهود لغة تواصل مع أهل تلك البلاد ، واستدل علماء اللغات والبحث التاريخي على ذلك باستدلالات كثيرة ليس هنا مجالها . كما توصل هؤلاء العلماء التاريخيون – اللغويون إلى أن اللغة التي كان يتكلمها موسى وبنو إسرائيل في منبتهم – مصر- هي اللغة الهيروغليفية ؛ التي نزلت بها ألواح موسى (التوراة ) ... وحين عبر اليهود نهر الأردن بقيادة ( يوشع بن نون ) ووصلوا غربي النهر، أقاموا في أريحا - المدينة الكنعانية ، وتعلموا اللغة العبرية المتداولة حينذاك على ألسنة الكنعانيين بأرض فلسطين التي لم يدخلها موسى قط ، فترجموا توراتهم إليها ، وأحلُّـوها محل الهيروغليفية على ألسنتهم وفي كتاباتهم بحكم الموقع الجغرافي الجديد ، وبحكم اختلاطهم بأقوام يتحدثون لغة غير لغتهم الأولى . إذ كيف لهم أن يتعايشوا مع أصحاب الأرض وهم غرباء عنهم ؟. وكيف لهم أن يتخاطبوا ويتفاهموامع شعب كنعاني بلغتهم الهيروغليفية الدخيلة ؟! . من هنا فـَرضت عليهم الحاجة الاجتماعية إلى تعـلم العبرانية – إحدى لغات الكنعانيين - لغة للتفاهم ووسيلة للاتصال وتبادل المنافع مع أصحاب الأرض الساكنين فيها . ثم صارت اسماً علماً لهم ، فعُرفوا بالعبرانيين لأول مرة في التاريخ في زمن متأخر جداً ، وذلك بعد انقسام ما يُسمى دولتهم إلى دولتين شمالية وجنوبية - بعد موت الملك سليمان بن داود . فاحتكروا لأنفسهم هذه اللغة العبرانية الجديدة عليهم ، كما احتكروا الرب إلها قومياً لهم . وتبعاً لذلك ؛ فقد تغير كثير من عاداتهم وتقاليدهم ، ودخل على معتقداتهم الدينية وطقوس عباداتهم شيء من معـتـقـدات الكنعانيين الوثـنية ، كما تأثروا بفنون الطعام والملبس ، وتداولوا في معاملاتهم التجارية الأوزان والعملات الكنعانية مثل الشاقل والقـَسِيطة . وانسلخوا عن كل ما له صلة بالمصريين الفراعنة مع تقادُم الزمن ، ونسوا لغتهم الأولى نتيجة تَرْكِها مع توالي الأجيال ، فغيَّروا اسم أبرام إلى إبراهيم وغيَّروا اسم ساراي إلى اسم سارة , وذلك ليتوافق مع النسق الصوتي الذي فرضه عليهم تداول اللغة الجديدة . ولكي يعطي كاتب هذا السفر التوراتي صفة القدسية لهذا التغيير فقد نسبه إلى الرب . قال الرب مخاطبا أبرام : " فلا يـُدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم " . تك / صح 17 : 5 . ثم يطالعنا كاتب آخر في موضع آخر: " وقال الله لإبراهيم : ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل سارة ، وأباركها فتكون أمما وملوك شعوب , منها يكونون " . تك / صح 17 : 15- 16. وقـد يتساءل القارئ الكريـم : أليس ورود هـذين الاسميـن ( إبراهيـم و سارة ) بهذا القالب اللغوي في الإنجيل الآرامي والقرآن العربي صيغة ونسقا صوتيا دليلا على عربيتهما ؟. وهل اللغة العبرية في كينونتها إلا إحدى اللغات الكنعانية المحكية السائدة في بلاد الفلسطينيين حينذاك ، والتي تنتمي إلى الأسرة الساميَّة ؟ . فهي من حيث النسب أخت الآرامية التي نزل بها الإنجيل , وهي أخت اللغة العربية القرشية التي سادت في بلاد الحجاز وأنزل الله بها القرآن الكريم على قوم يتلسَّـنون باللسان العربي المبين . وليس يسعفنا المقام لطرح ومناقـشة ما تـوصَّل إليه علماء تـاريخ اللغات المقارن من أن اللغة العربية القـديمة ( القحطانية الجنوبية والعدنانية الشمالية) هي أمٌّ لكل اللهجات الساميَّة التي ارتقت كل منها إلى درجة لغة مستقلة بذاتها حين تفرَّقت الأقوام وتباعدت ديارها ، فكانت البابلية والآشورية والكنعانية والفينيقية والعبرانية والآرامية ومن بعدها السريانية والعربية القرشية الحجازية وغيرها ، مع احتفاظ كل منها بالجينات الوراثية المنقولة إليها من اللغة العربية الساميَّة الأم ، ومع المحافظة على صلات القرابة اللغوية وبقاء السمات والخصائص البنيوية التي تظهر في شخصية كل منها . ولا يباعد بينها وبين طابعها السامي ذلك التأثير الحاصل من الغزو الثقافي الخارجي وما يرافقه من تفشي الفيروسات اللغوية والألفاظ الدخيلة الآتية من لغات أجنبية ؛ كاللغات الهند- أوروبية ، والأنجلو- سكسونية ، ومجموعة اللغات السنسكريتية والمجموعة الطورانية ...الخ .
ويتكرر العهد الذي قطعه الرب على نفسه لإبراهيم : " وأقيـم عهدي بيني وبينك , وبيـن نسلك من بعدك في أجيالهم ,عـهدا أبديا , لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعـدك ، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان مُلكا أبديا , وأكون إلههم " . تك / صح 17 : 7 – 8 . ثم هناك جملة أخرى سبق ذكرها تقول " لأن جميع الأرض التي أنت ترى ، لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد ، وأجعل نسلك كتراب الأرض ........... " . تك / صح 13 : 15 – 16 .
من خلال قراءتنا للجملتين السابقتين نجد أن التوراة تعترف بإبرام العهد الإلهي بين الرب وبين إبراهيم , وبين الرب وبين نسل إبراهيم من بعده عهدا أبدياً . ونحن مضطرون إلى إعادة سؤال سابق : مَن هم نسل إبراهيم وإسحق ؟.
تشير التوراة في كثير من المواضع أن الذي يحق له أن يرث إبراهيم من بين أولاده هو ولده اسحق ابن سارة البابلية الكلدانية عربية الجذور والمنبت ، فأخرجت أخاه إسماعيل بن إبراهيم الذي ولدته هاجر المصرية وأخرجت نسله من هذا الحق ، كما استثـنت إخوته الستة الذين ولدتهم ( قطورة ) الكنعانية ، وهي الزوجة الثالثة لإبراهيم . ثم ينتقل الحق في الميراث من بعد اسحق إلى أحد ولديه التوأمين وهو يعقوب ، وتستثني عيسو التوأم الآخر وأولاده ، وتـُبقي على أبناء يعقوب من زوجتيه ( ليئة ) وجاريتها ( زلفى ) , و( راحيل ) وجـاريتها ( بلهى ) ، وعـددهم اثـنا عشر ولدًا ذكرًا وابنة واحـدة اسمها ( دينا ) . وتستمر التوراة في تبيان أبنائهم وأحفادهم الذين تسميهم نسل إبراهيم حينا ونسل اسحق حينا آخر، ودرجت على تسميتهم بني إسرائيل نسبة إلى يعقوب ... وللتوراة أن تفصِّل حسب هواها وحسب هوى كتبتها وما يريدون !... ولكنهم لا يستطيعون أن يُخفوا حـقيقة إبراهيم العربي البابلي الكلداني الذي خرج من أور الكلدانيين مسقط رأسه بجنوب العراق ، والذي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا ينتمي لجنس العبرانيين ، ولا يمت بصلة لبني إسرائيل من الناحية الدينية ، لأنه سابق على موسى النبي الذي نزلت عليه التـوراة وكان رسول اليهودية بخمسمائة سنة تقريبا ... كذلك يندرج نفس القول على اسحق وعلى يعقوب الذي هو إسرائيل وعلى أبناء يعقوب الذين هم بنو إسرائيل , فكانوا جميعا سابقين على موسى وتوراته ، إذ كان الفـرق الزمني بينهم وبين موسى أكثر من 450 سنة تـقـريباً . ونحن لاننفي اتصال النسب العرقي بين بني إسرائيل الأسباط الإثني عشر وأنسالهم الأنقياء وبين إبراهيم وأصله العربي ، ولكن إثبات ذلك مستحيل في هذا الزمان لعدم إمكانية الفرز الحقيقي بسبب دخول أقوام أخرى في دين اليهودية ، وهي أقوام متباعدة الأصول ولا تجمعها الفروع ، فاختلطت الدماء وتلوَّث النقاء وتلاشت الصلات التاريخية . فيهود اليوم ليسوا استمرارًا تاريخياً لبني إسرائيل الذين زالوا بزوال النقاء العرقي ، من هذا المنطلق فإن يهود اليوم الذين جاءوا من القارات الست بألوانهم البيضاء والسوداء والحمراء والصفراء ، وتجمَّعـوا في فلسطين بلا نسب بينهم ، لا يحق لهم شيء يُسمى حقوق بني إسرائيل التاريخية .
ونلاحظ أيضا أن الرب يقيم عهدا أبديا , ويقيم ملكا أبديا ، ويعطيهم الأرض إلى الأبد ... فتكرار كلمة الأبد ...أبديا... هو ما نسمعه على ألسنة بني إسرائيل والصهيونية هذه الأيام بإضفاء صفة الأبدية في قولهم : إسرائيل الأبدية , أورشليم عاصمة أبدية , بقاؤهم أبدي , ملكهم للأرض أبدي , دولتهم أبدية ...فكل هذا وغيره كثير مما أخذوه عن توراتهم التي كتبها عزرا - بعد موت موسى بثمانمائة سنة - بمشاركة فريق من الكهان بعد السبي البابلي . ثم نلاحظ في الجملتين السابقتين أيضا أن هذا الرب هو إله إبراهيم ونسله فقط ، فيحتكر اليهود هذا الرب الذي يدعـونه إله إسرائيل . فـهـو ليس رب الأقـوام الأخرى ، وليس هـو رب البشر، وإنما هـو ( يـَهْـوَا ) الرب القومي الموقوف عليهم وعلى نسلهم وحدهم . وقد أوردت التوراة تصريح الرب ليهود بني إسرائيل من خلال مخاطبته لشخص موسى : " أتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها " . خروج / صح 6 : 7 . ومن قبل كان خطاب الرب لإبراهيم : " لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك ... وأكون إلههم " . تك / صح 17 : 7- 8 .
ثم نجد الإشارة واضحة بأن أرض كنعان كانت كلها أرض غربة إبراهيم ، فصارت مُلكا أبدياً له ولنسله من بعده حسبما أراده اليهود ، وأوجدت التوراة هذا الرب وحددت وظيفته ليكون في خدمة يهود بني إسرائيل . كما أناطت به قـتـل الشعوب الأغيار (الجـُويـيـم ) وطردهم وتشريدهم وسلبهم حـقـوقهـم وأمـلاكهم ونقلها إلى ( شعبه المختار! ) ، وجـعلـت من هـذا الـرب " بلفور" عصره وزمانه السابق على بلـفور القـرن العشرين الميلادي ، فيعـطي مَن لا يملك أرضا لمن لا يستحق ، وكِلا ( البلفورَيْن ) يُصْدِر وعدًا بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض ، ويعمل على تنفيذه . لأن هذا الرب هو رب بني إسرائيل ورب اليهود فقط ، فتـُصَوِّره لنا التوراة وهو يمشي أمامهم مُشرِعا سيفه , مستعدا لقتال الكنعانيين واليبوسيين والحثـِّيـيـن , طاردا إياهم من أمام شعبه ( المُدلل!) . وجعل الكاتب هذا العهد وهذا العطاء لسارة ولابنها اسحق وليعقـوب بن اسحق وأحـفاده ( أسباط بني إسرائيل) . فأوجـدت التوراة بـذلك سـنداً ديـنـياً ملفقاً ، يمنع مشاركة اسماعـيل ابن هاجر وأبنائه من بعده لإسحق ابن سارة ولأبنائه من بعده في إرث أبيهم إبراهيم . " و قال الله لإبراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي ؛ بل اسمها سارة ، وأباركها وأعطيك أيضا منها ابنا . أباركها فتكون أمما وملـوك شعـوب منها يكونون ، فسقط إبراهيم على وجهه وضحك . وقال في قلبه هل يولد لابن مئة سنة ؟!, وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة ؟! " . تك / صح 17 : 15 – 17 . في الجُمَل السابقة ، كما الجُمَل اللاحقة دلـيل توراتي على أن إسماعيل هـو الابن البكر لأبيه . وشريعة حامورابي البابلي التي حفظها إبراهيم وعمل بها اسحق ويعقوب والأسباط ، وكذلك الشريعة اليهودية – الموسوية التي جاءت بعدهما تعطي الابن البكر صلاحيات اجتماعية خاصة وتُميَّزه عن إخوته في الميراث ، فتعطيه الضِّعـْف وتجعله القيـِّم والنائب لأبيه على إدارة شئون البيت وأهله وعلى الممتلكات .... إلخ . فأيـن هـذا الحـق المسلوب مـن بكـورية إسماعـيل الـذي وُلِـد قـبل اسحـق بـأربـع عشرة سنـة . " وأعطيك أيضا منها – من سارة – ابنا " ، فالرب يقرر أن يعطي إبراهيم من سارة ولدا مثلما أعطاه ولداً من هاجـر من قـبل وهـذا ما نلمحه من كلمة ( أيضا ) . ثم اقرأ معي سؤال إبراهيم لنفسه عندما بـَشَّره الرب بولد من سارة : " وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة ؟! " . يقف إبراهيم حيال هذه البشرى ضاحكا مستغربا حدوثها ، فجاء كلامه على صيغة استفهام إنكاري ، الغـرض مـنه واضح ؛ وهو استبعاد حدوث ولادة سارة ذات التسعين خريفا ، واستحالة ذلك منه بعد أن وصل عمره إلى مئة سنة ، على الرغم من وجود إسماعيل ابن هاجر الابن البكر لإبراهيم يجري على الأرض .
وتظهر عـواطف إبراهيم وحنانه وخوفه على ابنه إسماعيل فإنه يتوجه إلى الرب ليحـفظه ويرعاه . ولكن الرب – كما تـُصَوِّره التوراة - فيه جـفوة الـبداوة ، وفيه غـلظة أهل الصحراء الرُّحَّل ، وفيه عـنادهـم واستحواذهم على كل شيء ، وهي بعض من طباع بني إسرائيل . فيتمنى إبراهيم على الله أن يحفظ ابنه إسماعيل ويكثر من نسله . ولكن الرب يـُصِرُّ على إقامة العهد مع ( اسحق ) ابن سارة الذي لم تلده بعد . و يبتلع إبراهيم ريقه اطمئنانا على ابنه إسماعيل عندما أخبره الرب أنه سيباركه وسيكثر من نسله ويجعله أمة كبيرة . " وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك . فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعـو اسمه اسحق , وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده . وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه , ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا . اثنى عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة .. و لكن عهدي أقيمه مع اسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية " . تك / صح 17 : 18 - 22 . وتـُصِرُّ الأقلام الكهنونية في مطبخ الكهنوت على الاعتراف بسارة فقط زوجا لإبراهيم , وعلى أن اسحق فقط ابنه من دون سائر الأبناء " بل سارة امرأتك تـلد لك ابنا وتـدعـو اسمه اسحق " . " ولكن عهدي أقيمه مع اسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية " . لاحظ أنه حتى ذلك اليوم الذي قطع فيه الرب ذلك العهد لإبراهيم كان اسحق في عالم الغيب لم يولد بعد ، وعندما حال الحوْل ووُلد اسحق كان إسماعيل يكبره بأربع عشرة سنة .
إذن الأحداث مطبوخة والرواية مُفـَصَّلة حسب الطلب الإسرائيلي ( اليهودي – الصهيوني ) تمهيدا لوضع اليد الاحتلالية على أرض كنعان فلسطين . وحرمان أبناء إسماعيل من ميراث أبيهم ... لأن أمه مصرية من أحفاد مصرايم بن حام بن نوح ... وحام هذا - كما يُصَنِّفه النسَّابون التوراتيون - هو نفسه أبو كنعان الذي ينتسب له الكنعانيون ، وله قصة غريبة وعجيبة تحكيها التوراة - ولا تستحيي – فتخبرنا أن نوحا عندما صحا من سُكره ، غضب من ابنه حام أصغر أبنائه الثلاثة ، فاستحق لعنته ، ولكن نوحا لم يلعن ابنه حام على فعـلته المفتراة ، بل لعن حفيده كنعان ابن حام الذي لم يكن مولودا حينذاك ؛ ودعا عليه بأن يظل – كنعان وليس حام - عبدا ذليلا لأخويه ( سام و يافث ) ، فلماذا؟.
إنها قصة ملفقة وظريفة يمكن قراءتها في سفر التكوين / صح 9 : 20 – 28 من التوراة المفبركة ليدرك القارئ أن الأيدي التي تنسج الشِباك كانت تفتل الخيوط الأولى منذ عهد نوح للاستيلاء على أرض كنعان فلسطين . وتحكي القصة التي قام بتأليفها حاخامات اليهود في عـصر متأخر ليبرِّروا أطماعهم في استملاك فلسطين بحجج دينية واهية : أن نوحا عليه السلام كان فلاحا وغرس كرما ، وشرب من الخمر فسكر ، وتعرَّى داخل خبائه ، فأبصر حام أبو كنعـان عورة أبيه ولم يغطـِّهِ ، وإنما ذهب وأخبر أخويه – سام ويافث – فغطياه برداء دون النظـر إلى عورته . " فلما استيقـظ نوح من خمره علم ما فعـل به ابنه الصغـير (حام ) فـقال ملعـون كنعـان ! .عـبد العـبيـد يكون لإخوته , وقـال مباركٌ الـربُ إله سـام . وليكن كنعان عـبـدًا لهم . ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام . وليكن كنعان عبدا لهم " . تك / صح 9 : 24 – 27. فإذا كان نوح قد غضب من ابنه حام لأنه فضح عورة أبيه بالنظر إليها ، فما ذنب كنعان بن حام الذي لم يكن مولودا حينئذ ليتحمل وزر أبيه ؟ . قصة ملفقة ومكذوبة أيضا على سيدنا نوح وعلى أبنائه ، الغرض منها إخراج الكنعانيين من رحمة جدهم الأعلى وكسر غصنهم من شجرة العائلة السَّاميَّة ، ليخلو لليهود وجه الجد الأعلى المشترك ، والانفراد بالإرث الموروث دينياً عن الأجداد والآباء . هذه هي العقلية اليهودية الاحتلالية المبكِّرة التي تساندها العقلية الصهيونية المتأخرة في التخطيط والتفنن في رسم خريطة الطريق لوضع اليد على أرض كنعان العربية الفلسطينية وانتزاعها من أصحابها المالكين لها ، وطردهم منها بحجة ملـفـقة تـُصَوِّر لنا الرب ظالماً , غليظ القلب , شرس الطباع , منزوع الـرحمة والـعـدل ... وتـُصَوِّره قاتلا ومجرما وإرهابيا - بلغة العصر. أفلا يستحق أن يُقـَدَّم ( ربُّ الجنود ) إلى محكمة الجنايات العليا لتقول فيه كلمتها على ما ارتكب من آثـام وقبائـح وجـرائـم حرب ضد الإنسانية في حـق الكنعانيين أصحاب الأرض الفلسطينية ، وفي حق غيرهم من الأقوام البشرية المتعاقبة عبر مسيرة قافـلة الزمان . ؟! ... وإلى لقاء مع المقالة الثالثة إن شاء الله ..
للكاتب الصحفي / عبد الحليم أبوحجَّاج
**
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت