مما لا شك فيه أن الانقسام الداخلي الفلسطيني ، وتمزيق الوطن الفلسطيني الجريح إلى دويلات وكيانات ، ألقى بظلاله على كافة مناحي الحياة الفلسطينية ، حيث أصبحنا نرى الازدياد الملحوظ بعدد الجرائم وأنواعها ، وكذلك حالات تعاطي المخدرات والمهدئات ، إضافة إلى الخلافات العائلية والنزاعات الأسرية ، والتي أدت إلى ارتفاع معدلات الطلاق بين فئة الشباب صغير السن ، وهذا بالتأكيد نتيجة انسداد الأفق ، وعدم الشعور بالأمان ، وغياب الأمل بالمستقبل ، وارتفاع البطالة في ظل احتياجات الأسرة اليومية .
بالتأكيد يحاول السياسيين من جميع الأطراف إرسال رسائل تطمينيه للمواطن ، في إشارة إلى أن كُل واحد منهم مهتم بما لديه من مسؤوليات رسمية ووطنية ، فالسلطة الوطنية الفلسطينية برام الله تُكرر اسطوانتها المشروخة بأنها لن تتخلى عن غزة ، وهي تدفع الأموال اللازمة لرواتب الموظفين والتعليم والصحة والشؤون الاجتماعية ، وأصبحنا نشعر بأن القضية عبارة عن تحميل جمايل ليس إلا ، وكذلك تفعل حكومة حماس في غزة ، فهي تحاول أن تُطمئن المواطن بأنها تسعى وراء المصالحة الداخلية ، وتُلقي باللوم على السلطة برام الله ، وذلك لعدم تحمل تبعات ما فعله الانقسام بالمواطن بشكل عام .
من الشرائح التي تضررت نتيجة الانقسام ، هي شريحة الموظفين الحكوميين ، وبرغم أنهم يتلقون رواتبهم من السلطة الوطنية ، بالتأكيد بعد معاناة وإذلال وتأخير ، إلا أنهم دفعوا الثمن الأكبر نتيجة استمرار الانقسام ، فجيش من الموظفين أصبح بين ليلة وضحاها عاطل عن العمل ، ومطلوب منه أن يبقى صامتاً ، فممنوع عليه انتقاد السلطة لأن التقارير الكيدية بانتظاره ، وممنوع عليه الحديث عن أي شيئ لأنه سيتهم بأنه يتحدث بالسياسة وقد توجه له تهمه التخابر مع جهة معادية .
أصبحت شريحة الموظفين تهرب من نفسها ، فبحثت عن الحلول الجزئية ، فمنهم من وحد له عمل يتسلى به ، ومنهم من يٌشغل نفسه بممارسة هواياته المختلفة ، ومنهم من ينام طيلة النهار ويسهر طول الليل على الإنترنت أو التلفزيون ، وآخرين يجلسون ليتبادلوا الحديث عن المستقبل والمصير ، وهذا ما يجعلهم في خانة المحللين الاقتصاديين والسياسيين ، حين تسمعهم يتناقلون خبر من هنا أو هناك ، حتى أن بعضهم أصبح يتخيل القرارات وينسج القصص الخيالية المتعلقة بمستقبل هذه الشريحة .
من المؤسف أننا نجد طابور من عمالقة الإفتاء ، والذين يحاولون إفهام الآخرين أنهم مضطلعين على الأوضاع ، حتى وصل الأمر لدرجة الجزم في بعض القضايا ، وتجد أن أحدهم يقول تارة السلطة ستقطع رواتب غزة ، وآخر يقول أحالة على التقاعد ، والمصيبة أنهم يؤكدون المعلومة وكأن مجلس الوزراء يعمل لديهم مخبر أو ناقل أخبار ، برغم أنني متأكد أن غزة لا تُشكل أي اهتمام لدى أصغر موظف موجود في رام الله ، بل أنهم استراحوا منها ، ويتمنون لو تُشرق شمس الصباح ووجدوها غارقة في البحر .
إن انتشار هذه الظواهر ، هو غياب الخطاب الرسمي الواضح للسلطة الوطنية ، وضبابية القرارات والتوجهات التي تتعلق بغزة بشكل عام ، إضافة إلى عدم وجود مرجعيات رسمية وقنوات اتصال بين القيادة والقاعدة من الموظفين ، مما جعلهم يشعرون بنوع من التيه والضياع ، مابين سلطة منشغلة بالبقاء على قيد الحياة ، ووزارات وقيادة أجهزة منشغلين بالحفاظ على مواقعهم وكراسيهم .
آن الأوان لأن نتحدث بما نفهم ، وأن لا نتحدث بما لا نملك ، ولنترك القضايا لأصحابها ، فنحن دفعنا كُل الأثمان من أجل استقرار القرار وإلغاء دور الإفتاء .. من أجل التخصص ، فلا يمكن لأحد أن يٌقرر شيئ عن الآخر ، ولا يجوز أن نرتهن لإشاعة هنا أو هناك ، أو نتناقل خبر يصدر عن مهووس أو موتور ، ويكفينا ما حصل لنا نتيجة قيامنا بالكثير من الأفعال السلبية ، ويجب علينا أن نكون على مستوى عالي من احترام عقول الناس وعدم المشاركة في تحويلهم إلى أسرى للإشاعات والأخبار الغير صحيحة .
في النهاية نستذكر القصة الشعبية الشهيرة ، التي سمعناها من أسلافنا ، حين ذكروا أن شخصاً كان يُسمى ( أبو الدبعي ) والذي كان يقوم بإلقاء غطاء رأسه في الأماكن التي كانت تحدث بها الجرائم ، حتى يأخذ السمعة والشهرة بأنه وراء هذا الفعل ، لأن باعتقاده أن الفعل هو بطولة .
&&&&&&&&
إعلامي وكاتب صحفي – غــزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت