يا بني إسرائيل : تعالوا نحتكم إلى التوراة ...!.

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

المقالة الثالثة : وماتت سارة .....( زوج إبراهيم ) :

ماتت سارة – حسب رواية التوراة – في قرية (أربع) التي هي حبرون في أرض كنعان , عـن عمر استغرق مئة وسبعاً وعشرين سنة . ندب إبراهيم زوجه وبكاها وبكى عليها , وحار ماذا يفعل . أين يدفنها ؟ وليس له مُلك أرض تتسع لقبر في أرض الكنعانيين . ومن أين يأتـيه مـُلك قـبر وهـو لاجئ غـريب في أرض غـريبة , يعيش وحـيداً بعـد أن فـارقه ابن أخـيه لوط ورهطه , وليس له صلة قرابة أو معرفة بالقبائل العربية التي تمتلك هذه الأرض الكنعانية منذ فجـر التاريخ . اقرأ معي في سفر التكوين صح 23 قصة موت سارة التي اختـلقها المؤلف الماهـر لكي يحتج بها الإسرائيليون فيما بعد على ملكيتهم لمدينة حبرون ( الخليل ) . وملخصها : أن سارة ماتت في قرية (أربع ) , وأن إبراهيم زوجها يريد أن يدفنها في أرض لا يملك فيها مكانـاً يتسع لقبر. فماذا يفعل وهـو في أرض الغربة ؟ . كاتب التوراة يحرك الممثلين على المسرح , فيدفع بإبراهيم للذهاب إلى (ديوان ) بني حِث وهي إحدى القبائل العربية الكنعانية صاحبة الأرض في حبرون ( الخليل ) منذ القِدم . يدخل إبراهيم ديوان بني حِث ويقص عليهم حكايته مستعطفا إياهم بالكلمة الرقيقة وبالدمعة السخينة , فتأخذهم النخوة العربية والمروءة الكنعانية ، وتتملكهم الشفقة به والعطف عليه ، فيسمحون له بدفن زوجه في أرضهم أينما يشاء . " وقام إبراهيم من أمام مَـيـِّـته – سارة – وكلم بني حِث قائلا : أنا غريب , و نزيل عندكم , أعطوني مُلك قبر معكم لأدفـن مَـيـِّتي من أمامي " . تك / صح 23 : 3-4 . استجاب بنو حِث لإبراهيم وسمحوا له بأن يدفـن زوجه في أرضهم . " فأجاب بنو حِث إبراهيم قائلين له : اسمعْـنا يا سيدي أنت رئيس من الله بيننا , في أفضل قبورنا ادفـن مَـيِّـتـك , لا يمنع أحدٌ منا قبره عنك حتى لا تدفـن مَـيِّـتـك . فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض - بني حِث ". تك / صح 23 : 5-7 .

إذنً إكراماً له لكونه ضيفاً عليهم ، ولكونه غريباً نزل في جوارهم ، ولصلته بالله ولمكانـته مـن الله التي عـرفوها له ، وقـدَّروها خيـر تقـدير، ولا ندري كيف عـرفوها ، ولماذا قـدَّروها بـرغـم وثـنيـتهم ! - فكان ذلك في ميزان حسناتهم . فأحسنوا معاملته وسَمحوا له بـدفـن مَيـِِّّـته في أفضل مكان يختاره من أرضهم ، وشكر لهم حُسْنَ كرمهـم وعظيم مروءتهم ونخوتهم , وقد تمثـَّل شكره بسجوده لشعب الأرض - لبني حِث ، وحاشا لسيدنا إبراهيم أن يسجد لغير الله – سبحانه .
إلى هنا من المفترض أن ينتهي المشهد , ولكن كاتب التوراة يأبى إلا أن يخلع على إبراهيم – نبي الله – صورة اليهودي الجشع اللحوح ، والتاجر المخادع ، وغير ذلك من تلك الصور التي قرأناها كثيراً في كتب الأدب والتاريخ عن خصائص الشخصية اليهودية . فـلم يكتفِ إبراهيم بما تكرَّم عليه بنو حِث بأن يـدفـن مَـيِّـته وينتهي الأمر، بل جاء سينارست آخر شارك الكاتب الأول في استكمال كتابة هذا السيناريـو التوراتي ، وربما كانوا مجموعة من الكتبة تعاونوا فيما بينهم ، فاستنطقوا إبراهيم ودفعوه لأن يطلب منهم أن يتوسطوا له عند صاحب حـقل المكفيلة ، الذي لا يعـرفه ولا يعرف اسمه ، من أجل أن يبيعه أرض الحقل والمغارة التي فيه بثمن مقبوض ، حتى يتسنى للتوراة أن تنقل كينونة إبراهيم الاجتماعية من شخص لاجئ غريب إلى مستوطن يدَّعي شراء أفضل قطعة أرض في حبرون كلها . وكان هـذا افـتراء منهم على إبراهـيم النبي الذي يؤمن بأن الأرض كلها لله سبحانه ، لا ينبغي له أن يَـمْـلِك أو يُـمَلِّك ، أو أن يَرِث أو يُوَرِّث أحدًا شيئاً من بعده . ولقد تكرر هذا التـلفيق ولحقـته تـلفيقات توراتية أخرى مُنبَثـَّة في لفائف أسفار التوراة ، كادعائهم ملكية بيت لحم , و شكيم ( تل بلاطة- بنابلس ) و بيت إيل و بئرالسبع و أورشليم (القدس) وغيرها ، ليُطـْبقوا بأيديهم على أرض فلسطين الكنعانية ، ويبسطوا سيطرتهم عليها . وكان بنو إسرائيل بارعين في اختلاق الحجج والذرائع وتلفيق الأدلة التي يبطلها التاريخ والدين واللغة والروايات وحـفائر الآثار. ولعلني أستبق الأحداث فـأشيـر سريعا إلى جملتين وردتـا في سفـر التكـوين ، يتحدث فيهما الكاتـب عن غربة يعـقوب وقـصة شرائه مـدينة شـكيـم ( نابلس ) من الحـويـيـن ، والتي سيـرِد ذكرها بالتـفصيل في سياق الحديث عـن غـربة يعـقـوب . " .... ثم أتى يعقوب سالما إلى مدينة شكيم التي في أرض كنعان حين جاء من ( فدان أرام ) ونزل أمام المدينة , وابتاع قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته , من يـد بني حمور أبى شكيـم بمـئة قـُسِّيطة " . تك/ صح 33 :18-19(القـُسِّيطة نوع من العملة النقدية التي كانت متداولة بين الفلسطينيين في ذلك الزمان ) . هذا هو ديدن بني إسرائيل , وهذا هو منهج اليهود الذي يمارسونه حتى يومنا هذا لإسباغ الحجة القانونية على الأرض التي يدَّعـون ملكيتها بالشراء المفتعل .

إذن سمح بنو حِث لإبراهيم بدفـن مَـيِّـته ( سارة ) في أرضهم , فاستراح لهذا السماح وطابت به نفسه . فقد حقق الخطوة الأولى من خطته الاستيطانية ، وعليه أن يبدأ الخطوة الثانية حتى يصل إلى الغاية المنشودة ، فـيـبدي إبراهيم طمعه وجشعه كما يريد اليهود أن يظهروه بما ليس فيه بتكرار الطلب من شيـوخ قبيلة بني حِث أن يلتمسوا له عـند صاحب حقل المكفيلة لكي يـبيعه هذا الحقل - الذى رآه أفضل مكان - بثمن كامل يعطيه إياه أمام جميع رجال القبيلة وهم على المبايعة شهود . فانبرى له رجلٌ ، عَرَّف نفسه بأنه عـفرون بن صوحر صاحب الحقل والمغارة ، وخاطبه قائلا على مسمع ومرأى من بني حِث ليكونوا شهودًا عليه . " لا يا سيدي , اسمعني . الحقل وهبتك إياه , والمغارة التي فيه لك وهبتها , لدى بني شعبي ( أي شهداء على ما أقول ) , وهبتك إياها , ادفن مَـيِّـتـك " . تك / صح23: 11. وهنا سجد إبراهيم أمام شعب الأرض للمرة الثانية شكرًا وعرفاناً بالجميل . وخاطب عـفـرون قائلا : " إن كنت أنت إياه – صاحب الحقل – فليتك تسمعني , أعطيك ثمن الحقـل , خـذ مني فـأدفـن مَيِّـتي هناك " . تك / صح 23: 12. استاء عـفـرون من أسلوب إبراهيم ومحاورته ومساومته كما تورده التوراة , وأخبره أن ثمن الحقل قليل لا يستحق هذا الجدل , فأربع مئة شاقل فضة ليس مبلغا يستأهل هذا الإلحاح , فلا هو سيغنيني , ولا أنا في حاجة إليه ... أنا لا أريد منك شيئا . " يا سيدي اسمعني , أرض بأربع مئة شاقـل فضة , ما هي بيني وبينك . فادفن مَيِّـتـَك " .تك / صح 23 : 15. عرف إبراهيم من كلام عـفـرون أن ثمن حقل المكفيلة أربع مئة شاقـل فضة . فوزنها وقـدَّمها له وألحَّ عليه أن يأخـذها . امتنع عـفرون عن أخْـذِها , إذ استعيـَبها على نفسه أن يأخذ ثمن قطعة أرض صغـيرة من غـريب نزل في جوارهم ، وقد سبق له أن قدَّمها هبة أمام جمع من رجال القبيلة ، لاينتـظر مـن ورائها مردوداً . ولكن إبراهيم يتهالك في إلحاحه المستغرَب ، " ووزن إبراهيم لعـفـرون الـفضة التي ذكرها في مسامع بني حث ، أربع مئة شاقـل فضة جائزة عند التجار " تك / صح 23 : 16. ويتقـدَّم من عـفرون ويضع الشواقل الفضة في حِجره . ويتمنى عليه أن يقبلها , ولم يكن لعـفـرون خَيَارٌ آخر غـيـر قبولها ثمناً للحقل والمغارة ، وقد بدت على أسارير وجهه وحركة يديه علامات الدهشة والاستغراب من تصرفات هذا الرجل الغريب . وهكذا تـُصَوِّر التوراة إبراهيم أبا الأنبياء بهذه الصورة المادية الكريهة . وبشخصية المستوطن التاجر الجشع الذي يسعى للاستيلاء على أرض ليست له بطرق التفافية رخيصة , وحاشا لإبراهيم – خليل الله – عليه السلام – أن يكون كذلك . وصار حقل المكفيلة والمغارة التي فيه وكذلك جميع الشجـر مُلكا خالصا لإبراهيم بشهادة الشهود على صحة وسلامة هذه المبايعة التي تـُرَوِّجها التوراة زورًا وبهتاناً ، ويعتبرونها حُجة دامغة وشهادة إثبات ( طابو ) لترجيح ادعائهم أمام القانون الدولي المختص بفض منازعات الأراضي والحدود حين تـُعـْرَض عليه هذه القضية للبت فيها . وهل يمكن للقوانين السماوية والوضعية أن تستـند على هـذه المبايعة التوراتية ؛ وتحكم بوجـوب نـفاذها وتـنفيذها ما لم يـُسأل الطرف الآخـر( البائع ) عن صحة هـذا الادعاء ومدى صدقه . ولكن التوراة تفـْصِل في القضية من غـيـر سند قانوني أو تاريخي ، وتقضي من جانب واحد ، وتـُقرِّر معتمدة على أسانيد وحيثيات مـُزورة حين تصدر حكمها في القضية قائلة : " فـوجب حقل عـفـرون الـذي في المكفيلة التي أمام ممرا ، الحقل والمغارة التي فيه وجميع الشجـرالذي في الحقل الذي في جميع حدوده حواليه لإبراهيم مُلكا لدى عـيـون بني حِـثَّ بين جميع الداخلين باب مدينته . وبـعـد ذلك دفن إبراهيم سارة امرأته في مغارة حقـل المكفيلة أمام ممـرا التي هـي حـبرون في أرض كنعـان . فوجب الحقـل والمغارة التي فيه لإبراهيم مُلك قبر من عند بني حث " . تك / صح 23: 17- 20.

انظر إلى كلمة " فوجب الحقل والمغارة " التي تكررت مرتين لتوحي للقارئ بصحة البيع ، وقانونية امتلاك الأرض التي وجب استحقاقها بعد دفع الثمن ، ووجب انتقال ملكيتها من المالك البائع إلى التاجر المشتري الجديد . وسنرى تجارًا آخرين من بني إسرائيل يشترون أوهاما ليبنوا عليها مُدناً وقُصوراً من خرافاتهم المكذوبة على الله وعلى أنبيائه وعلى المؤمنين جميعاً . ثم انظر وتدبَّر قول التوراة : " حقل المكفيلة أمام ممرا التي هي حبرون في أرض كنعان ".إنه إقرار توراتي صريح يعترف بحبرون – الخليل – كنعانية الأرض جغرافياً وسكانياً ، وكنعانية الهوية أصلا ونسباً ، وكنعانية العِرْق ذات كيان سياسي تنتسب إليه وتـُعرف به .
تلك هي قصة حبرون التي آلت ملكيتها إلى جدهم – وليس جداً لغيرهم - حسب السرد التوراتي ، زاعمين أن إبراهيم قد اشتراها من صاحبها العربي الكنعاني (عـفـرون بن صوحر) الذي ينتمي إلى قبيلة بني حِثَّ الكنعانية العربية ، فصارت بموجب هذه المبايعة المُزوَّرة مُلكا لإبراهيم ولنسله من بعده الذين جاءوا من اسحق ويعقوب فقط . إنها قصة يبدو عليها الترقيع والتلفيق الذي قام بنسج خيوطها الكاتب عزرا الكاهن بعد حوالي ثمانمائة سنة من موت موسى تقريبا ، عـندما كان في المنفى البابلي قـبل عـودته على رأس الفوج الثاني من العائدين إلى أورشليم سنة 457 ق.م . إنه عـزرا الذي تقول عنه التوراة في سِفر باسمه : " عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل " . عزرا / صح 6:7 " . وتقول عنه أيضاً : " ...عزرا الكاهن الكاتـب , كاتـب كـلام وصايا الرب وفرائضه على إسرائيل " . عزرا / صح11:7. ونقرأ فيها رسالة : " من أَرْتـَحْشَسْتا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل ...".عـزرا / صح12:7. ( ملاحظة : أَرْتـَحْشَسْتا ملك الفـُرْس في ذلك الزمان ) . فورود هذه القصة في التوراة لا تكفي أن تكون شاهد إثبات على ملكية يهود بني إسرائيل لمدينة خليل الرحمن ( حبرون ) , بل إن هـذا الزعـم التوراتي لا ينطلي على عاقـل منصف , لأن كاتب التوراة قـد وضع سيناريو خاصاً لخدمة نواياهم وتطلعاتهم الاستيطانية , فاختـلق قصة صك بيع الأرض ليثبت انتقال ملكيتها لإبراهيم ولنسله من بعده . وهـذا التلفيق التجاري يتوافق مع ضَعف إبراهيم وقلة حيلته في أرض غربته . ولـو كان يعـلم كاتب التـوراة أن لإبراهـيم قـوة وأن وراءه جيشاً وسلاحا كقوة داود الحربية ، لأظهره لنا جندياً محارباً يستولي على حبرون عن طريق الحرب ، ويأخذها عـنوة بعد أن يقتل أهلها ويدمِّر مدنها ويقتلع شجرها ، كما تحدثنا التوراة عن حروب داود وتصف فظاعتها ووحشية قائدها . ولقد كانت قصة إدعاء ملكية إبراهيم لحبـرون ( الخليل ) هي الأولى في مسلسل طال ملكية بني إسرائيل لنابلس و شكيم ( تل بلاطة ) و إفراتا على طريق بيت لحم ، و بيت لحم نفسها و بئر السبع و بيت إيل و أورشليم ( القدس ) التي تدَّعي التوراة أن الأخيرة مدينة داود . والتاريخ يقول إنها لم تكن يوما مدينة لداود , وإنما كانت القدس عبر التاريخ - منذ أنشأها اليبوسيون العرب – وما زالت مـدينة الله وحـده ، وليست مدينة لأحد غيره – سبحانه ، بوجهها العربي الأصيل .

التوراة تخبرنا أن أرض فلسطين قد قـُسِّمَتْ بين أبناء يعقوب الإثني عشر (الأسباط) حسب القرعة التي أُجْرِيَتْ بينهم ، بحصول كل منهم على نصيبه من الأرض ، على الرغم من وجود أربعة أبناء منهم لجاريتين هما : زلفى وبلهى ، فلم يحرمهم كاتب التوراة كما حرم إسماعيل ابن هاجر الجارية من ميراث أبيه . فنراه يـُفـَصِّل الشريعة حسب هواه ، وحسب المصالح المستقبلية لليهود لتحقيق أهدافهم الاستيطانية بسرقة أرض فلسطين ، وتصديق ادعائهم بأنها أرض الميعاد ، يسندهم في ذلك الوعـد المكذوب على الله سبحانه . ويسندهم أيضاً اختفاء نسخة التوراة التي كتبها الرب وأنزلها على موسى الذي كان حريصاً على شريعة الله ، فلم يأتمن عليها قومه اليهود لمعرفته بطبائعهم ، بل اختار أبناء الهارونيين - ( نسبة إلى أخيه هارون ) - وهم من سبط لاوي الذي ينتسب إليه ، فأوقف عليهم الكهانة وخصَّهم بتطبيق الشريعة ، وأودعهم التوراة ليحافظوا عليها ويحفظوها ويعملوا بما جاء فيها ، ويحملوها معهم في حِلهم وترحالهم . ونسخ عنها اثـنتي عـشرة نسخة بعـدد الأسباط ، أعطى كل سبط نسخة منها ، واحتفـظ لنفسه بالنسخة الأصلية بلغتها الهـيروغليفية التي كتبها الله له على الألواح . " وكتبنا له في الألواح مـن كل شيء موعـظة وتفصيلا لكل شيء... " . ( سورة الأعراف آية 145) . ووضعها في صندوق الشريعة الذي تعارفـوا على تسميته ( تابوت العهد ) . وحين غـزا القائد البابلي نبوخذ نصر البلاد سنة 586 ق.م ، أحرق أورشليم وخرَّب الهيكل ، فاحترقت كل نسخ توراة موسى ، وقـُتـل الكهنة الهارونيون حملة التوراة (الربانيون) ، وكذلك رجال الشريعة (الأحبار) . وهكذا اختفت – حسب زعمهم – توراة الله ( توراة موسى ) من الوجود باحتراق كل نسخها الأصلية بما فيها النسخة التي أودعها موسى في تابـوت العهـد ، وساعد على اختفائها مصرع كل حـفظتها والقائميـن عليها . فإذا كانت هذه الأحداث التي أوردتها التوراة التي بين أيدينا صحيحة ، فمن أيـن جاء عزرا الكاهن بإحدى النسخ الأصلية التي ترجمها إلى اللغة العبرانية بعد احتراق المدينة ودمارها وخراب هيكلها وسَبْي أهلها إلى بابل الذي استغرق سبعين سنة من ( 586ق.م إلى 516 ق.م ) ؟. ولقـد ترأس عزرا الكاهن خلال سنوات السبي البابلي لجنة التحريف والتأليف والترجمة التي ضمت عـددًا من الكُهَّان السامريين والعبرانيين ، وكانت النسخة الأصلية من التوراة حاضرة معهم بين أيديهم وفي صدور بعضهم ، فترجموها من لغتها الهيروغليفية بمفرداتها وحروفها التصويرية التي نزلت بها في الألواح على موسى ، " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قـومه لِـيُـبَـيِّـنَ لهم ..." ( سورة إبراهيم آية 4) ، ونقلوها إلى اللغة العبرانية ، إحدى لغات الكنعانـيـيـن العرب ، وقـد انتـفخت توراتـهم بالتحريف إما بتغـيير اللفظ بالحـذف أو بالإضافـة ، أو بتزوير الحقائق وتضارب الآراء ، نتيجة لاجتهاد كل منهم دون الاطلاع على ما يضعه الآخرون ، أو بالتوافـق فيما بينهم حين عمدوا إلى التأويل الفاسد في رواية بعض الأحداث وسـرد بعض القضايا ، تدفعهم إلى ذلك الأسباب الآتية :
1- إذكاء الروح القومية قي نفوس اليهود بعد سقوط دولتهم الجنوبية ، وتدمير أورشليم مدينة اليبوسيين العرب وتخريب الهيكل ، وسبيهم على يد ( نبوخذ نصر) إلى بابل فيما يعرف بالسبي البابلي سنة 586 ق.م .

2- التذكير بالوعـد الإلهي المكذوب على الله لتـثبيث فكرة ميراثهم لأرض كنعان , وأنهم الشعب المختار الذين احتكروا الرب لهم دون غيرهم , إذ يخاطبهم الرب قائلا : " أتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها ". تك/ صح 7:6.

3- التعتيم على انتقال النبوة إلى بيت إسماعيل وإنكارها تماماً ، وطمس الإشارات التي تتنبأ بقـدوم النبي العـربي محمد - صلى الله عليه وسلم - بدين جديد يَجُـبُّ ما قبله من ديانات سماوية .

4- ترسيخ فكرة اقتسام أرض فلسطين وتوزيعها على الأسباط الإثني عشر بالقرعة التي اُجـْرِيـَتْ بينهم . ولا يخفى على القارئ كيف تسلك التوراة طريقة رخيصة لاغتصاب فلسطين بفرض الأمر الواقع الذي مازالت تمارسه إسرائيل بالعـقلية الصهيونية الاحتلالية على الأرض الفلسطينية هذه الأيام .
5- التنافس بين المملكتين – الشمالية والجنوبية – بعد موت سليمان سنة 930 ق.م ، إذ تطوَّر الخلاف بينهم إلى عداوات ، وانقسموا إلى دولتين : دولة إسرائيل في الشمال التي ترى أن جبل جـرزيم هو المقدس لأن قصة الذبح كان عليه ، وبالتالي فهو قـِبْـلتهم في الصلاة . ودولة يهـوذا في الجنوب التي ترى أن جبل أورشليم هو المقدس لأنه مكان الذبح ، وهو قـِبْـلتهم .

وبعد عـودتهم مـن بابل اشتعلت بينهم الاختلافات واشتدت المنازعات ، فانبرى كل منهم يرفع من قـَدْر دولته ، ويحطُّ من شأن الدولة الأخرى بإلصاق التـُّهَم وإظهار القبائح . وحملت أجيالهم هذه الخصومات وهذه الكراهية إلى أيامنا هذه . والجدير بالذكر أن هذه الكراهية طالت شخص سيدنا عيسى – عليه السلام – حين قال له يهود أورشليم " إنك سامري وبك شيطان " . يوحنا صح 8 : 48 . مـن هنـا كان تصويرهم لأنبيائهم وأزواج أنبيائهم وأولادهم وبناتهم بأبشع الصور، طاعنين في أخلاقهم قادحين في شرفهم . إنها طبائعهم التي لا تتغير ولا تتبدل على مَـرِّ الأيام وتـعاقـب السنين ، وسيمر بنا من ذلك الشيء الكثير الذي يدعـو إلى كثير من الاشمئزاز والتقزز . * وإلى لقاء مع المقالة الرابعة إن شاء الله ... *



















جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت