خربة سمارة ... معالم رومانية بنكهة أثرية فلسطينية

طولكرم – وكالة قدس نت للأنباء
عند العصر ... في غرفتي والإضاءة خافته ولم أشعل النور حينها ... النافذة مفتوحة والهواء بارد نوعاً ما ... عند بدايات الشتاء "سندس حاولي عجّلي في تجهيز نفسك لا نريد أن نتأخر، خاصة أن الجو بارد وحتى نعود باكراً" يحادثني أخي بعجلة من أمره، أرد عليه قائلتاً "لا تهتم للأمر، أنت ما عليك سوى تحضير ما يلزمنا لهذا المشوار وحينها أكون انتهيت".

هذا بعد تردد كبير من ناحيته وإلحاح أكبر من طرفي "هل من الضروري هذا المكان، وهل انقطعت الأرض إلا من هذه المنطقة لكي تصوريها؟؟ ... سندس المكان خطير " وأنا ما زلت أصر على الذهاب إلى المنطقة المسماه "خربة سمارة" وهي خربة رومانية قديمة تتمترس داخل حصونها إلى الشمال من قرية سفارين على بعد حوالي الـكيلو والنصف والواقعة جنوب شرق مدينة طولكرم . "إذا أنت خائف ولا تريد الذهاب معي سأذهب وحدي" أجبته بعصبية.

رجع يسألني هل انتهيت وهو يقف خلفي وأنا على المرآة ويحادثني بعصبية رغم أنني لا أرى وجهه بحكم فارق الطول بيننا فقط أرى حركات يديه المستعجلة في المرآة رغم أني أكبره بخمس سنوات "ليس من الضروري الآن أن تستخدم مرطب اليدين أو حتى كحل العينين، اوووف على البنات ... هناك في الخربة لا يوجد عرسان".

ترمقنا بعينها وأشعر بالخوف يأكل جسدها وهي تجلس في صالون بيتنا تحيك الصوف وأشعة الشمس بدأت تتسلل من النافذة مشيرة إلى قرب الغروب "يا أمي انتبهوا لأنفسكم ولا تتأخروا" وذلك بحكم أن خربة سمارة تقع خلف الشارع الرئيسي والذي يعتبر شارع مستوطنتي "عناب وبني حيفتس" وكذلك لكثرة وجود الآبار والكهوف المخيفة.

كان قد جهز الحمار لمشواره بما يلزمه من "برذعة" هو ما يوضع على ظهر الحمار، وكذلك أخذ الماء وبعض المأكولات الخفيفة للتسلية، قلت له بنبره منخفضة أنا لا أركب الحمار وذلك لأني أخاف منه ولا أتقبل رائحته.

ركب هو ظهر الحمار وأنا أسير بجانه وكلي خوف من هذه الدابة ربما لحادثة حصلت معي وأنا صغيرة إذ سقطت عن ظهر الحمار، تعالت ضحكاتنا ونحن نتبادل أطراف الحديث هل سوف نجد هناك في الخربة مستوطنين، وهل ستوقفنا أحد الجيبات العسكرية على الطريق، والكثير الكثير من التساؤلات.

على جانبي الطريق أشجار الزيتون والأراضي الزراعية والنسيم العليل يلاعب عباءتي ووشاحي، أتلفت يمنة ويسرة على الرغم من أنني ابنة البلد لكني لا أعرفها جيداً فلم أزرها من قبل سوا مرة واحدة.

زقزقة العصافير تشدو في المكان، وأصوات الرعاة والأغنام ترسم لوحة الريف الهادئ.

على تلك الطريق المستوية ورغم ذلك بدأت أشعر بالتعب بحكم عدم اعتيادنا على المسير لمسافات طويلة، وعند المنتصف تقريبا قلت لأخي أتذكر هذه الصخرة حينما جئنا في السابق ووجدنا عليها مفتاحاً كبيراً والآن نحتفظ به في بيتنا.

بدأت أستسلم للتعب وهنا بدأ أخي يزايد عليّ كم أستطيع الصمود في حافلتي صاحبة الرقم "11" قُلت لَك "لهذا الحمار فوائد جمة وأهمها الراحة وأنت ما زلت تتكبرين عليه" يمازحني بحديثة ويضحك لما أصابني من تعب، وإذا أردت العودة فليكن لا مانع لدي.

وإن قلت لَك بأنني سوف أركب خلفك على الحمار ما قولك؟ من المؤكد تكون جننت ولست بوعيك فهل يعقل أن سندس التي تخشى الحمار ولا تستطيع شم رائحته سوف تركب عليه. زاوية من الحديث الذي دار بيننا.

وبالفعل وكما يقولون لم أكذب خبراً, هنا نزل أخي عن ظهر حماره وبدأ يساعدني في الركوب وصرخاتي تصدح في المكان، أستعين بفروع الأشجار وأتمسك بها لأثبت نفسي جيداً وتم الموضوع على خير وأصبحت على ظهر الحمار جاثمة.

ما زلت أمسك غصن شجرة الزيتون القريبة من السلسلة الحجرية والتي أوقف أخي عندها الحمار ليعينني على الركوب، وعند قفزه على ظهر الحمار أمسك في الحبل المربوط برقبته وبدأ ينهره للمسير، وهنا يكتشف بأنني ما زلت أتمسك في غصن الشجرة رافضتاً تركه.

"تمسكي بي واتركي الشجرة في حال سبيلها حتى نتمكن من المسير" يقولها وضحكته تعلو في المكان، تمسكت به وبشدة وأغمضت عيناي وبدأت أتمايل أماماً وخلفاً مع حركات سير الحمار وأحياناً أقفز لأعلى ومع كل قفزة هناك صرخة.

عند وصولنا مفترق الطريق ظهرت علامات الحيرة على وجوهنا، هو يرفع حاجبيه للأعلى ويساءل نفسه "في المرة السابقة من أين ذهبنا؟" وأنا أعتمد عليه وما زلت أتمسك به، وبدأنا نتخيل أنفسنا في أحد حلقات الرسوم المتحركة عندما يختلط عليهم أمر الطريق "سندس لازم نعمل علامات على الطريق حتى نستطيع العودة إن لم تكن صحيحة، لكن لا نريد أن نستخدم قطع الخبز حتى لا تأكلها الطيور وهنا نضيع في الغابة كسندريلا، من الأفضل أن نستخدم الحجارة ورددت على حديثه".

"طوت طوت طوت "أبي من أين الطريق؟ اذهبوا من اليسار ... ثم كيف تذهبون أساساً دون معرفة جيدة بالمنطقة والطريق" عندها بدأنا نشعر بأننا أصبحنا أقرب للخربة وهي أمتار قليلة تفصلنا عنها.

وصلنا الشارع الرئيسي ونريد أن نقطعه بسرعة، هناك نصب تذكاري لمستوطنة كانت قد قتلت في بداية الانتفاضة وعلم إسرائيل يرفرف، سألته إن كانت هُويته معه وإن كان يحمل النقود حتى إن تأخرنا نذهب لقرية كفراللبد القريبة من الخربة ونعود لسفارين مواصلات، لكن والحمار ماذا نفعل معه !!.

نحن الآن على أطراف الخربة عند سفح الجبل الذي تقطن عليه، من بعيد وأمام ناظرينا تلمع الحجارة البيضاء لكبر حجمها وانسياب أشعة الشمس عليها . أخذنا نفساً عميقاً والابتسامة ترتسم على محيانا مع فرحة عارمة وكأننا وصلنا قمة الألب "وصلنا ... نحن على أرض الخربة".

تركنا الحمار مربوطاً بإحدى الأشجار وأخذنا الماء والطعام والأهم من هذا كله الكاميرا للتصوير، سمعنا أصوات أناس في المكان فبدأ الخوف يتسلل قلوبنا ظنًّ منا بأنهم مستوطنون من مستوطنة "عناب" المتاخمة للخربة، قلت له اصمت قلياً وبدأت أتفحص المنطقة بعدسة الكاميرا وإذا بهم فلاحون يحرثون الأرض للزراعة، إذا أنها رغم كل شيء أرض زراعية.

ونحن نتسلق الجبل ... بين الفينة والأخرى نصعد السلاسل الحجرية ذات الأحجار الضخمة التي كانت في الماضي جدران وأساسات القلعة الممتدة على قمة الجبل، حتى أننا لا نستطيع صعودها بالشكل الاعتيادي إذ لا بد من الانبطاح عليها والتمسك الجيد بها لتجاوزها، وكنا نسمع أصوات تنفسنا المضطرب جراء شعورنا بالتعب ودخول الهواء البارد والقوي لصدورنا، ناهيك عن احمرار أنوفنا وسيلانها وأخذنا نتفقد المحارم الورقية.

ما زال الانحدار الجبلي قائماً والتسلق مستمراً لكن ... شجرة خروب شامخة تضرب جذورها عمق التاريخ وكأنها تقول أنا من عهد الرومان، قطفنا بعض الأوراق وكتبنا عليها تاريخ رحلتنا للذكرى والذي كان 20-11-2012.

وأخيرا ها قد وصلنا ... نحن على قمة الجبل في القلعة الرومانية الشامخة رغم كل عوامل الحت والتعرية ومحاولات الطمس والتغيير، لحظات صمت أصابتنا كأننا لا نتقن الكلام، نتبادل النظرات بتعجب وما أن نظرنا أسفل أقدامنا حتى نجد أنفسنا نقف على لوحة فسيفسائية فائقة الإبداع والدقة ممزوجة بكل ألوان الطيف تحوي رموزاً نباتية وحيوانية.

فما أن بدأنا نتجول في القلعة حتى تصادفنا الأعمدة الحجرية واللوحات الفسيفسائية والتي غطى معظمها الأتربة والنباتات.

في هذه الأثناء ساعتنا الزمنية عادت للقرن السابع الميلادي، هناك حيث الإمبراطور وحُراسه وجواريه وما يحيط بهم من مجالس غناء ولهو.

أخذت ألعب دور الإمبراطور مباشرة عند مصادفتي لكرسيه كما يقال، جلست عليه وكليّ حزم وإصرار أطلب من أخي إحضار الماء لي ثم أن يحمل غصن شجرة زيتون ويقف بجانبي كما الحرس وكأنتي أعيش اللحظة تماماً.

لم نكن وحدنا في الخربة، وليس ببعيد عنا يتصاعد إلى السماء مزيج دخان النرجيلة والشواء فالرائحة تملئ الجو ... مجموعة من الشبان من بلدة كفراللبد في رحلة ترفيهية يتضاحكون، فهذه القلعة ملاذهم الوحيد للتسلية والترفيه عن أنفسهم.

كنا نسير بحذر فمعلوماتنا تقول هناك وجود عدد لا بأس به من الآبار الكهوف المخفية بالنباتات والانهيارات الترابية والحجرية وبعد كل خطوة "انتبه ... انتبهِ" وتعيدنا ذاكرتنا للمرة الأولى التي قدمنا فيها للخربة إذا كنا بصحبة والدتنا والتي لم يهدأ لها بال ولم يكل لسانها من التحذير والتخوف.

الناظر للأسفل من الجهة الشمالية الشرقية للخربة يستطيع وبشده اكتشاف معالم مستوطنة عناب والتي لا تبعد سوا أمتار قليلة، بدأت بالتقاط بعض الصور لها وأخي يكفني عن ذلك ويحدثني بعصبية الشباب "ماذا لو رأوك، ما الذي سنفعله حينها؟ " وأنا أطمئنه بأنك في حمايتي فأنا صحفية وليس لهم الحق في اعتراض عملي، "والله أكلنا وشربنا منك ومن صحافتك تلك ..." يتمتم محدثاً نفسه.

وما أن انتقلنا للجهة الغربية حتى نجد من رأتهم عدسة الكاميرا في بادئ الأمر اثنين من المزارعين يتعاونون على حرث جزء من هذه الأرض لزراعتها وبقربهم مجموعة من الأغنام تأكل من خشاش الأرض، وكان التعب واضحا عليهم فوجوههم شاحبة وأجسادهم نحيفة أصحاب بشرة سمراء.

ألقينا عليهما السلام وأكملنا حتى جزء القلعة الغربية لنجده شاهق العلو تكسوه العزة والشموخ وكذلك الحشائش والأعشاب والتقطت بعض الصور الصحفية، إذا أن سر ذهابنا للخربة هو تصوير المنطقة الأثرية هناك.

وفي ذات المكان هناك أيضاً قوس مبني من الحجارة المتراصة على بعضها دون وجود أي مادة لاصقة، صعدنا عليه بالتّناوب وأخذنا بعض الصور هناك، وهنا طلبت من أخي أن يعيد اللقطة أكثر من مرة حتى أحصل على واحدة جيدة من ناحية صحفية، ومن الجدير ذكره بأن زجاجة الماء التي بحوزتنا كانت ترافقنا في كل الصور التي التقطناها.

لم يبقى حجر ذو شكل مميز، ولا عامود صاعد أو هابط أو حتى مكسور، ولا مجموعة من أحجار الفسيفساء المتهلهلة عن لوحتها إلا ونالت نصيبها من تجميد حدثها في العدسة، وفي نهاية المطاف جلسنا على أحد الصخور نأكل التسالي والتقطت صورة لخيالنا الذي ارتسم على الأرض عند المغيب.

من/سندس علي