الثورات العربية وإشكالية القفز في عالم ما بعد الإنسان.

بقلم: سلام الربضي


وفقاً لجدلية المجتمع والسلطة هناك صعوبات منهجية تواجه كل مَن يريد تناول إشكالية الثورات ومصالح المجتمعات. فهل لنا أن نتساءل :

أين الحد الفاصل في المجال العربي بين مصالح سلطة الثورات وبين ثقافة ومصالح المجتمعات والذي على ضوئه يمكن تقييم سياسات الثورات العربية؟

فلا بد من لفت الإنتباه إلى أنه واقعياًً وعملاً بالنصيحة الديكارتية يجب تفتيت الإشكالية وهذه طريقة تساعد على إزالة الإلتباس والتشويش عن هذه الإشكالية، التي هي بطبيعتها ضبابية وقد تدفعنا إلى مفاضلات وهمية لا جدوى منها. فكل الأبحاث والدراسات التي تركز على الفوارق الشكلية أو الوظيفية بين كل تلك الثنائيات لا تجدي نفعاً، قبل طرح القضية الأساسية وهي هل هنالك فوارق جوهرية بين ما يرى من سياسات سلطوية لحكومات الثورات وبين ما لا يرى من بنية المجتمعات العربية من حيث الإطار والمناخ الثقافي الذي يحدد ويرسم طبيعة تلك السياسات ؟

بعيداً عن التنظير ولتوضيح هذه المقاربة ما علينا سوى دراسة نموذج مبسط للغاية، يعكس عمق الأزمة وكيفية مواجهتها. فما لا يرى وبكل تأكيد، هو أن العامل الثقافي هو المحرك الأساس والمشترك لكثير من أزمات المجتمعات، والذي يعكس ضعف ووهن الفكر العربي. فعلى الرغم، من الثورات المبشرة بالخير في بعض الدول العربية، ولكن ما زالت بنية المجتمعات العربية تعاني من الثنائيات المزدوجة والمتضادة. وهنالك أيضاً، حالات تقابل حدي في داخله واستطراداً هل هناك من نظرية غير نظرية البعد الثقافي يمكن اعتمادها لتفسير ظاهرة تخبط تلك الثورات بالأزمات التي اخذت أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية ؟

فواقعنا العربي يؤكد بصورة صارخة، أن أزمة حكومات الثورات بإمتدادها وعمقها، إنما هي أزمة مقومات أساسية وأزمة علاقات اجتماعية، على صعيد كل المجتمع. فالكل في أزمة، والأزمة في الكل، أنها أزمة عميقة وشاملة، ممتدة إلى جمع مستويات الحياة، إنها أزمة بنيوية عامة. فالظاهر هو تقييم ونقد للسياسات العامة، والتركيز على لعبة السلطة والمعارضة. ولكن، المخفي الذي لا يرى في تلك السياسات، هو أنها قد تكون أخطر وأبعد من أن تكون فقط مسألة سياسية أو اجتماعية أو مسألة تنمية اقتصادية، إنما هي أولاً وقبل كل شيء، حركة ذاتية تنبع من انتماء عقائدي ثقافي يفرض مقتضياته دوماً. فالمأساوية في واقع سياسات الثورات الحكومية تكمن في السؤال التالي:

لماذا يتطلب وفاق الثورات مع مجتمعاتتها كل هذا الوقت ودون أي جدوى؟

فمعظم المواضيع المطروحة في أدبيات فكر حكومات الثورات أكانت سياسية: السلطة ،الديمقراطية، المساواة، الحرية، القانون. أو في الاجتماع: الأمية، العادات، التقاليد، وضع المرأة، الحريات الاجتماعية. أو في الاقتصاد: التنمية، العدالة الاجتماعية، الفقر. أو من ثقافية: التعددية الثقافية، الأصالة، المعاصرة، الهوية، الآخر. كل تلك الطروحات ترتبط بشكل أو بأخر بالإشكالية الأم وهي:

كيف نسيطر وكيف نحكم ؟؟؟؟؟؟

لذلك، من الأولويات أيجاد مقاربة فكرية لواقعنا، وتوجيه النقد الفكري للإيديولوجية والتخلي عن النظر إلى أزمة الثورات الراهنة من الزوايا التقليدية التي تسود مجتمعاتنا، والقائمة على تحميل الأنظمة السابقة ومصالح الدول الكبرى، كل مصائبنا وشوائبنا. وهذه المراجعة تطال جميع إيديولوجيات االثورات _ هذا أن وجدت _ من فئوية إلى دينية مروراً بالقومية. فبداية الحل تكون بإعطاء هذه المراجعة أولوية على غيرها، نظراً لأهمية الوعي في عملية فهم وتحديد الواقع والأهداف والسلوك. وبالتالي, ه1ا يتطلب الاستعانة بالفكر الفلسفي الحر. فالفلسفة تمنح قدرة على تغيير الواقع المتردي، وهي فلسفة الإنسان كصيرورة تحكم نفسها وفقاً لمقتضيات العقل والحرية.

فهي من جهة فلسفة فكرية، ومن جهة أخرى فلسفة سياسية. ولا عجب بذلك، ففي قلب سؤال الفكر ينبض سؤال السياسة. والفكر الفلسفي هو الفكر الأقدر على معالجة الأسئلة المصيرية: من الهوية والتاريخ والدولة والسلطة. وهو قادر على تكوين رؤية شاملة للإنسان والثورة. هذه الرؤية التي تحتاج إلى اجتهاد واضح وجريء وعصري، وخيارات إستراتيجية واقعية، وعدم الاكتفاء بالتحولات اللفظية والتكتيكية المرحلية، والتي غالباً ما تنتهي، لحظة وصول أي ثورة إلى السلطة. كما أن التحولات العالمية المجتمعية المفاجئة، التي أوجدتها الثورات المعرفية/ العلمية/ الإنسانية/ البيئية/ قد أحدثت إنقطاعاً مع التصورات القديمة عن السياسة والدولة والمجتمع والذات والآخر. والقول الذي ما يزال يزيد الإشكالية تعقيداً وإلتباساً ويجعل الفكر حائراً هو :

لماذا إلى اليوم ما يزال الفكر العربي متمسكاً ولا يرى سوى أطروحة ربط موضوع التطور والتحرر بالقضية الإيمانية ؟؟؟ حيث يتم تبرير التخلف والانحلال السياسي بعدم فهم الإسلام واعتبار التحرك الاجتماعي الإنساني مجرد قنطرة إلى الآخرة ؟؟؟؟ وهل يجوز الاستمرار بالرهان اليوم على استعادة الماضي الذهبي، والاقتناع بأن الماضي ممكن استعادته ويحب أن يستعاد يوماً؟؟ وهل يمكن تقييم السلطة وممارستها، بالبحث عنها في عالم ما فوق الإنسان ؟؟؟

وإذا كانت كل التفسيرات أكانت لاهوتية أم ميتافيزيقية، قد فشلت في الوصول إلى نتيجة في موضوع البحث عن مصادر السلطة، فلماذا هذا التشبث من قبل فكر الثورات العربية في البحث عن مصدرها في الغيب، عن طريق الإيمان والنقل أو في المبادئ الأخيرة للوجود عن طريق النظر الميتافيزيقي؟؟

أن البحث الصحيح عن مصادر السلطة وممارستها، لا يقتضي أي نوع من الإيمان، ولا يقتضي القفز فوق عالم الإنسان. ففي دنيا الإنسان السياسية، لا وجود لسلطة واحدة عليا وشاملة تنبثق منها السلطات المختلفة أو تخضع لها خضوعاً كاملاً. ووحدانية السلطة في المجتمع، تصور ينسجم مع فلسفة السيطرة، لا مع فلسفة السلطة. فإذا كان ما يرى بسياسات الثورات السلطوية هو التخبط والفساد وأغتصاب للسلطة. ولكن، ما لا يرى هو أن كل تلك السياسات تعكس وتعبر عن واقع مجتمعنا الماورائي الألهي محتكر الحقيقة. وإذا أراد العرب أن ينهضوا ويتقدموا يتوجب عليهم أولاً نسف الوجود العربي التقليدي، لسببين :

أولاً : لأنه وجود متناقض مريض وهو الأخطر.

ثانياً : ادعاؤه بأنه مجتمع إلهي مثالي وكامل. وهذا يعني عدم إمكانية إجراء التحويل أو التغير فيه.

وباختصا، هذه هي الإشكالية الفكرية المطروحة الآن فيما يتعلق بوضع دساتير جديدة للثورات. إذ سوف تصبح هذه الدساتير، أقرب ما يكون إلى أمر رمزي، المقصود منه التأكيد على الهوية، وهذا نوع من هوية الموقف، وهوية الموقف لا تقل أهمية عن هوية الذات في المجتمعات غير الواثقة من ذاتها حضارياً، في عالم تكون السيطرة والتفوقية للغير. فالإعلان مثلاً في دساتير تلك الثورات والمجتمعات العربية بأن الإسلام دين الدولة، هو من باب هوية الموقف ولا معنى له، إلا إذا أخذ رمزياً. فالدين مجموعة أفكار وأحكام معيارية وتعبدات، وهو ينسب إلى الفرد فقط ولا يستطيع أحد أن يقوم بالتعبد سوى الإنسان، بينما الدول هيئات اعتبارية. ولكن، يحق التساؤل استطراداً:
كيف يكون للدولة دين وهي شخصية معنوية ؟

وبالتلي، قواعد تلك الدساتير _ والتي لا تفرق بين الأمور الدنيوية والأمور الميتافيزيقية _ سوف تشكل مستقبلاً، سلطة رمزية وما يلحقها من عنف رمزي، بحجة أنها تعبر عن أرادة الله على الأرض، ولا يجوز لأحد التلاعب بها.

علينا إذاً، التوسع في نهج الحداثة السياسية وبعض مقتضياتها ليشمل مواضيع مختلفة، خصوصاً الفكر اللاهوتي وما يصدر عنه من ثقافة دينية. عندها، يتعقلن وجودنا أكثر فأكثر وننطلق إلى بناء مستقبل أفضل، متسلحين برؤية فكرية جديدة. رؤية تدعو إلى احترام كل آخر لا يشاطرني نفس الرأي. والذي يذكرني باستمرار، أنني لا أملك كلية الحقيقة، ومن يدعي امتلاكها حكم على نفسه بالبقاء بعيداً عنها. وعلينا أن نتمنى أيضاً أن يكون الحنين إلى عصر ذهبي هذه المرة، هو المستقبل الآتي وليس الماضي الذي انقضى. فالأجوبة القديمة على الأسئلة الجديدة لم تعد كافية. والاتجاه التاريخي لمسيرة الوجود العربي، لا يمكن أن يكون إلا باتجاه الحداثة، وسيتمكن هذا الوجود من أن يقف على قدميه، بعد أن وقف طويلاً على رأسه. هذا إذا صح تعريف الإيديولوجيا بأنها وعي مقلوب، يقف على رأسه ؟؟؟؟؟؟؟

أخيرا قد يكون من المستحيل على تلك الثورات تغيير المجتمعات العربية نحو المستقبل، طالما كل ما تراه هو البحث في سياسات الحكم والتسلط؟ وفتاوي مفكريها قابعة في فنادق الجنس وتدمير أبو الهول؟ وقطع الرؤوس بالسيف على أيدي الأطفال؟ وجواز قتل 7 ملايين مواطن من أصل 20 مليون يختلفون عنهم بالمعتقد؟ وبما أن منظري الثورات وحاكميها ومموليها، قابعين في قصور وفضائيات إعلامية لحكومات بعيدة كل البعد عن الحرية والديمقراطية وتطرد كل إعلامي صرح وغرد بموقف خارج سربها؟ وممنوع على الثورات أن تقترب منها ؟ بل الأكثر من ذلك، تكثر فيها فتاوي تحريم التظاهر ولو كان من باب النصح وقول كلمة حق في وجه سلطاناً جائر ؟؟؟؟؟؟؟

سلام الربضي : باحث ومؤلف في العلاقات الدولية بيروت

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت