يأخذ علي ابني الأكبر من باب ديمقراطية (ان كبر ابنك خاويه)..!! وهو محق تماما ..، أن السياسة تأخذني في مزاربيها ككاتب على حساب الإبداع كشاعر..!! واخذ يطاردني مذكرا بمقاطع من قصائدي الخارجة عن النسق.!!
بالفعل تظل القصيدة بالنسبة لي كما الوطن ..عشقي الأول والأخير ،الا ان عوامل تعرية الرومانسية الثورية ،وحساسية الأحداث من حولي .. خنقتها او تكاد ..،و جعلتني الهث رغم انفي مع اللاهثين وراء مفارقات،وآهات الناس يوما بيوم، وأخرجها في قالبي الساخر أسبوعا بعد أسبوع..!!
واليوم نزولا على رغبة ما يطلبه المحبون..!! سأحاول الخروج من قمقم الغانية اللعوب التي تسيطر على كل شيء بسحرها ودهائها وتجددها ،شاغلة العقول دون القلوب.. ،وانطلق مع ذكريات وعلاقات وانطباعات من تجربتي التربوية.. قد تنفع الأبناء ،والأحفاد..، وقد لا تساوى ما انفق فيها من وقت ومداد..!!
اذكر أول يوم أصبحت فيه معلما بعد نحس مقيم ،ومعاناة شديدة رغم تفوقي.. ،وقد طرت من الفرح مع ربع ورقة ، بحثا عن المدرسة في يوم بارد ،وماطر من أيام كانون..!!وأ ذكر بكل الخير، والإعزاز تحسين مشتهى (ابو توفيق) رحمه الله أول مدير مدرسة استقبلني .. كنت مبتلا تماما .. ارتجف من البرد..، وأكاد ابكي من عزة نفسي..!!
لم يبحث الرجل في قواميس التربية ..، أو ينتظر أوامر عليا توجهه إلى ما يجب فعله.. ،بل أشعل (الكانون) في غرفة الإدارة ليدفئ معلما جديدا بإنسانيته قبل ناره ، ورجاني بحنان الابوة أن أناديه دائما ب (يا با..)..!!
ومن المفارقات النادرة ان عدت الى هذه المدرسة مديرا بعد 32عاما.،.وما ان دخلتها حتى غمرتني الذكريات بالدموع فصليت ركعتين ،ودعوت لابي بالرحمة، وأقسمت أن أسير سيرته..!!
اذكر أيضا طيب الذكر جلال العبادلة ( أبو سامي) الذي عاملني ابنا ،وصديقا ،وعوضني عن فقد أبي غارسا في تواضعه ،وحكمته.. ،فعلمني الكثير دون أن يخدش ذاتي ..!!
هذا الرجل.. أخذته من يده إلى حفل تقاعده ،وهو يصر على أن ينفق الدقيقة الأخيرة في متابعة خروج الطلاب من المدرسة بأمان..!!
واذكر كذلك المرحوم خليل الأعوج (أبو علاء) الذي امتلك حسا فطريا على التواصل مع معلميه، ومن حوله.. يفطر معهم ..،ويمازحهم ،ويشجعهم ،ويرتقى بهم إلى ما يريد ،ويريدون دون تنطع ،أو ضجيج..!!
وأ ذكر المرحوم عبد الرحيم مهدي (ابو احمد ) معلم الرياضيات القاسي الذي حولته خبرة السنين الى مدير مدرسة وديع ينضح طيبة ،ومحبة لمعلميه ،وطلابه ،فتفوح مدرسة الشهيد مصطفى حافظ ،ولا تزال بذكراه العطرة ..،وافخر إني انتميت إليها تلميذا ،ومعلما ،ومديرا .. فكانت بإذن الله حسن الخاتمة..!!
واذكر أخيرا ،وليس آخرا عبد العزيز أبو حطب (ابو خالد) معلمنا الطيب الذي احترمنا ،فاحترمناه .!!، و محمد السنوار (أبو رياض ) أخانا الذي كان يوجهنا بصمت الابتسامة ،وروح النكتة ..و عبد الحافظ ابو الخير (ابو عماد) بخبرته وادبه..!!
قد يظن من لم يعرف هؤلاء.. أني اطرح أسماء ذاهبة لمجرد المجاملة،أو الذكرى العابرة. ،ولكن من يعرفهم حقا ..ولم ينحن لهم اجلالا .. يكفر بأبسط قواعد التقدير،والعرفان..!!
قامات تربوية عرفتها ،وعرفت غيرها ..
نماذج رائعة ونادرة اخترتها حسب المكان من نخيل شامخ وباسق على طول الارض وعرضها ،والزمان ..لكي تخفف عنا وطأة المقارنة مع (عاهات مستديمة ) كثيرة رأيناها ، ونراها اليوم ،ولا علاقة لها البتة بالتربية ،أو الإدارة السليمة..!!
إعاقات تربوية بمعنى الكلمة..كانت،ولا تزال تتفنن في الشك ،والريبة بالمعلم ،والتلصص عليه ،والكيد له.. ،وترى أنها من طينة غير طينته ..!!
أما أساتذتي السالفي الذكر.. فقد كانوا عمالقة بالفطرة..لم يتتلمذ وا بالضرورة على يد (بستالوزي) ،و لم يسمعوا ب(هرم ماسلو)..!! ولم يحفظوا نظريات الإدارة بصما استعدادا لمسابقة ..!! أو تسللوا اليها عبررشوة أو واسطة ..!! بل هي ذاتها التي سعت اليهم، وتشرفت بهم..!!
لم يتخرجوا متعالين مباهين بحرف ال د من جامعة كامبريدج أو اكسفورد ..!! بل تخرجوا بسطاء من جامعة المخيم ،وعلى قارعة الحياة...تشربوا ببطء ،وروية القيم والمبادئ من جذورهم الضاربة في الاعماق ،وصقلوا بالممارسة الهادئة ،والواعية قدراتهم..،فأعطوا الأجيال المتعاقبة نفحات لا تموت من الإبداع والخبرة . ..!!
عايشتهم تلميذا ،ومعلما ، وهم قدوتي، ثم أصبحت بفضله الله ثم بأفضالهم مديرا.. ،لاختار طريقي من بين مدرستين متناقضتين في التربية ،والإدارة.. !!
الأولى : تعتبر المعلم إنسانا ..تقترب منه ..تحس به ،وتتعامل مع مشاعره ،وهمومه، وتطلعاته ،وسبل دفعه ،وتطويره
والثانية : تعتبر المعلم ترسا في آلة ،أو بالأحرى جنديا مقهورا يجب ان يطيع دائما الضابط (المدير)..!! وان ينفذ الأوامر دون أي اعتبار لمعاناته ،أو احترام ذاته ..!! وللأسف فان معظم مدراء اليوم.. ينتمون الى هذه المدرسة التي ربما تنسجم مع الخوف والطاعة..من تحت إلى أعلى!!
وبما يتماشى مع السياسات الخشبية الفوقية ،وخطط الغرف المكيفة لمكاتب التعليم ،والتي تتعامل مع المعلم بمهنية استخبارية جافة ، وتطبق عليه بقسوة نظرية الشك لديكارت (انا اشك..فانا موجود) ،وهو على عكس قاعدة الحق ( متهم الى ان تثبت براءته ) ..!!، كما انه ليس أكثر من مجرد رقم محايد على سجل من الحسنات ،والسيئات قبل الممات..!!
يرصده ناكر، ونكير من مفتش ،أو مدير..!! ويرقد سجل الحساب..!! ورقيا كان، أم الكترونيا حافلا بالثواب ،والعقاب يعلوه الغبار في أرشيف دائرة المستخدمين ..صادعا بأدب ،وانضباط حتى تقوم قيامة المذكور..،أويحال إلى التقاعد!! مع ديباجة تدعو إلى الرثاء ،وهي أشبه ما تكون بالعزاء.. !! و (زي ما شفت خرف) ..كأن المرحوم لم يكن..!!
آمنت جدا بالمدرسة الأولى ،واقتنعت بها ،ومارستها لسنوات بكل ثقة ،وفخر.. ،فحصد ت من الحب والعطاء أضعاف أضعاف ما بذرت..!!
لم أكن مديرا بقدر ما كنت ابا... ،وحققت بأبنائي وبناتي اعجازات ،وانجازات !! فكانوا دائما على قدر التحديات.. ،بينما تداعت هياكل دعاة اسبرطة ،ومنظمو حفلات التملق ، فانكشفت هشاشاتهم ،وتفاهاتهم ،ولم يحصدوا أكثر من شوك الازدراء ،و الكراهية ودعوات المظلومين..!!
لا أنسى النحيب الصامت ،وشرود من حولي طوال الشهر الاخير قبل تقاعدي.. ، استسلمنا لسنة الحياة، واحترقنا للفراق كان عزائي أني خرجت بحبهم ،وقد غرست فيهم قيم الماضي الذي علمني ،وقيم الحاضر الذي أدبني..!! وتركت لهم المستقبل... فضاء واسعا يلونونه بإبداعاتهم ،وأحلامهم..!!
غادرت المسرح راضيا مرضيا.. بعد أن أديت دوري ،وأمانتي بقدر ما استطيع..مشيعا بالعرفان ،والاحترام ،وقد منحت ثقتي ،وتقديري لمن أتوا بعدي ،وتوقعت أن يكونوا امتدادا طيبا له خصوصيته ،وفرادته..!!
،ومما يؤلم النفس ،ويدميها...ان معظم زملائي(المدراء) الذين احترمتهم، وجاملتهم ،وقدرتهم.. لم يكلف احد منهم نفسه ،ولو من باب (يخزي العين ) زيارة عميدهم المتقاعد ، او حتى السؤال عنه..!! اما الحجيج إلى المسئول الفلاني ، ومنافقة المدير العلاني فحدث ، ولا حرج..!!
يا عيب الشوم...!!
لو كانت الأمور تتعلق بالمشاعر فقط لصبرنا ،واحتسبنا....،ولكنها وصلت إلى حد التجاهل أحيانا .. ،وكأن هذا المتقاعد قد تحول بين عشية وضحاها إلى كرسي مستهلك ،أو قصاصة ورق مهملة ضمن سجل قديم في طريقه الى المحرقة..!!
تعودنا .. لم نعد نعتب ان لم ندع ..،وان دعينا.. نأت دائما محملين بالحب والواجب والانتماء والذكريات ..!!
حزنا.. نعم.. ،وتناسينا نعم ... ، لكنها غصة في الحلق مرة ..تجعلنا نتتساءل ،وبكل أدب : لماذا .؟!!
ألا يدرك أولئك العاقون أنهم في طريقنا ماضون ، وسيلقون ما نلقي؟
لا نقول هذا عن جوع إلى الفخفخة ،او الظهور..معاذ الله فالكل يعرف من نحن !! ،وقناعتنا أننا رغم الغياب لا نزال في عين الحضور..!!
ونتساءل أيضا : ألهذه الدرجة وصل الذكاء التربوي الخارق بمن زخرفوا ، وزينوا ،وحفظوا كالببغاوات كل ما كتب عن الإدارة فرسبوا في اول اختبار للذوق ،والتواصل..؟!!
قلت في رسالة تربوية مختصرة وصلت إلى عناوينها..(من لم يقدر ما فات.. لا يستحق ما هو آت ..)..!!
وأقول أيضا :علمنا من سبقنا ان نحترم الماضي في حاضرنا.. لكي يحترمنا المستقبل..!!
وكما وصلنا الى نهاية المشوار .. سيصل غيرنا.. فمن أوفى ،وقدر.. خيرا يره.. ومن عق،وانكر..شرا يره.. هذه حكمة الحياة التي يجب ألا تغيب عن عاقل أو جاهل..!!
أنا مدرك تماما ان هناك انهيارا تراكميا مأساويا في منظومة القيم التربوية ككل.. اسريا ،ومجتمعيا ،وما ذكرت ليس إلا جزء يسير من هذا الانهيار..!!
في النهاية.....
لم اسع أبدا في هذا المقال إلى شخصنة الأمور ،أو فتح النار على أحد..،وإنما هدفت أن أقدم رسالة لقرائي ،و للأبناء المدراء الواعدين.. أبين فيها ان التربية ،إما ان تكون تربية بنت ناس ،أو تربية بنت كلب ..!!
فالتربية الحقة هي ما يوافق الذوق العام ،وقيم الأجداد..،وتطلعات الأحفاد.. ،أما الجو السائد ،والمسموم بالأنانية ،والبغض ،والصراع ،والنفاق، والتحاسد ، والغيبة،والنميمة ..،فهو ليس من التربية في شيء بل هو غثاء يبعث على التقيوء والازدراء..، وأنا منه ،ومن سادته براء..!!
وأقول كاب لا يملك لكم إلا الحب.. انتم قدوة معلميكم في العطاء ،والانتماء.. امنحوهم ما استطعتم من الحب ،والتفهم ،والرعاية.. ،ليعطوكم الأفضل..ولا تنسوا لحظة.. أنكم كنتم ،ولازلتم معلمين
ميزوا.. قارنوا .. حاكموا .. تواصلوا... ثم قولوا كلمتكم ،ولا تخشوا في الحق لومة لائم..!!
اللهم اني قد بلغت.. اللهم فاشهد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت