واقع الإدارة العالمية الاقتصادية لن يكون مستقراً، إلا إذا برز نظام كوني متجانس قادر على مواجهة القوى الاحتكارية ، وتطبيق كل قواعد الحكمانية عليها من المجاهرة والإيضاح والشفافية والديمقراطية وتحمّل المسؤولية الاجتماعية. وهنا، تكمن أهمية القضاء ودوره. وإلا فإن كل صيحات الديمقراطية الاقتصادية الجديدة ومضمونها، ستكون نظاماً دولياً احتكارياً، لم يشهد العالم مثيلاً له. فإذا طغت السيطرة على النظام الاقتصادي العالمي، فإن كل دعاوى الديمقراطية الاقتصادية التي نسمعها، ستكون مجرد همسات في ريح عاتية. وفي حال، غياب أداة قادرة على الفصل ـ كالمحاكم ـ تكون قد تركزت دعائم دكتاتورية السياسة الدولية. وفي هذا الإطار، يمكن الرجوع إلى عمل منظمة التجارة العالمية، لمحاولة فهم هذه المتغيّرات، خاصة نشاطها على الصعيد القضائي.
وإذا تم إجراء أي تقييم دقيق، للسجل القضائي لمنظمة التجارة العالمية، لا بد أن يظهر أن النظام قد سجل تقليصاً لدور الدبلوماسية الدولية، وعمل بالمقابل على تعزيز حكم القانون. فالنزاعات التجارية الدولية الآن، تسوّى من قبل منظمة التجارة العالمية، وعلى أساس حكم القانون، وليس من خلال اللجوء إلى سياسة القوة المحضة. فتلك المنظمة، تمنح كل عضو حقوقاً متساوية، وكذلك التزامات متساوية، في قبول النتائج. ومن أكثر، الأمثلة تعبيراً عن واقع عمل هذه المنظمة، على الصعيد القضائي، هو ما يتعلق بقضية الهرمونات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا. فالمسيرة القضائية لمنظمة التجارة العالمية، أثبتت نجاحها بوجه عام، على الرغم من بعض الملاحظات والاعتراضات على مسيرتها القضائية، كالاعتراضات على نظام التسويات القضائية للمنظمة، مثل : سرية المداولات، ونفقات المقاضاة ...الخ .
كما أن، سجلات منظمة التجارة تظهر أن عدد الخلافات أو الشكاوي الواقعة بين الدول والتكتلات داخل المنظمة تقع أكثرها، بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فهي أكثر الدول الشاكية والمشكو منها أيضاً. وتشير إحصاءات المنظمة أن النسبة العظمى من الخلافات التي يتم تقديمها إلى المنظمة، مقدمة من قبل الدول والتكتلات الكبرى، فيما الدول النامية والصغرى، _ وهي التي تعتبر الأكثر تضرراً من غيرها من الواقع الاقتصادي العالمي _ هي الأقل تقدماً أو تذمراً أمام مراجع المنظمة القضائية ؟؟؟
ومن القضايا المتنوعة، المطروحة في أروقة المنظمة، ما يتعلق بحقوق الملكية، وفرض قيود على حرية وصول المطبوعات، وسياسة الإغراق. ومنها شكاوي الولايات المتحدة ضد الصين فيا يتعلق بحقوق الملكية الفكرية، ووضع قيود على حرية وصول المطبوعات، والأفلام والموسيقى الأجنبية، إلى الأسواق الصينية. هذا وقد أصدرت منظمة التجارة العالمية، أول أحكامها ضد الصين، وشملت تلك القضية ثلاث دعاوى رفعتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا، في شأن الضرائب التي تفرضها الصين على واردات مكونات السيارات.، وكان هذا أول حكم يصدر ضد الصين، منذ انضمامها لعضوية المنظمة عام 2001, ولقد طالبت لجنة فض المنازعات في المنظمة من الصين، بمطابقة نظام الواردات لديها مع قواعد التجارة العالمية.
كذلك، فإن معظم الخلافات القضائية داخل المنظمة، تقع بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأكثرها قائم، على دعم الدول لصناعتها وزراعتها، التي تصب في خدمة ودعم الشركات. وقد تكون المنافسة القضائية بين الشركتين، إيرباص ـ بوينغ تدخل في إطار استراتيجيات الدول التي تعتبر صناعة الطيران صناعة استراتيجية تدخل في صميم الأمن القومي السياسي والأمني والاقتصادي. فالولايات المتحدة قدمت شكوى ضد مؤسسة الطيران الأوروبية، تتهم فيها الحكومات الأوروبية بتقديم الدعم لشركة إيرباص. وتعتبر هذه القضية، من أكثر القضايا تعقيداً التي تبت بها المنظمة الدولية. وقد قدمت الولايات المتحدة، أدلة على أن السلطات في مقاطعة ويلز، قدمت مساعدات مالية، على شكل منحة لتدريب فنيين جدد لطائرة إيرباص A350، المنافسة لطائرة البوينغ 787، حيث يحاول كلا الطرفين تقديم الأدلة والبراهين، على مخالفة الطرف الآخر لمبادئ المنظمة، ودعمه لشركته الوطنية. ولقد أصدرت منظمة التجارة العالمية، حُكمها القضائي في هذه القضية، والمكون من حوالي 1200 صفحة والذي تدين فيه الاتحاد الأوروبي .
وبالتالي، يبدو أن قوى السوق بأمسّ الحاجة، إلى سلطة القضاء من أجل إعطائها الشرعية القانونية، ومن أجل صون ملكيتها، وحماية حرية عملها. والمنظمات غير الحكومية تستطيع أن تلعب دوراً على صعيد العمل القضائي للمنظمة، من خلال الحق الذي أعطي لها في تقديم مذكرات النصح والإشارة، لهيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية.
ويمكن أيضاً، الاستفادة من السلطة القضائية العالمية، للمحكمة الجنائية الدولية، خاصة في ما يتعلق بقضايا النزاعات المسلحة وانتهاك حقوق الإنسان، إذ لا بد من الإشارة إلى نظام المحكمة الجنائية الدولية، المتعلق بمسؤولية الاشتراك في الجريمة، والذي يمكن أن يخلق مسؤولية جنائية دولية للموظفين والمسؤوليين. وبالتالي، يترتب على المجتمع المدني الصغط والعمل، لإيجاد تعديلات في نظام المحكمة من أجل، إدراج مسؤولية المؤسسات عن الانتهاكات، في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مستقبلاً، بشكل صريح وواضح وعلني، وتحديدا فيما يتعلق بالنشاط الاقتصادي والبيئي ؟
فالمجتمعات بحاجة إلى قوانين مالية واقتصادية وسياسية، تنظم حركة الأسواق الاقتصادية بكافة جوانبها، والقضاء قد يكون مدخلاً لهذه الحركة. وإلى أن يتم الاتفاق على وضع تلك القوانين، يبقى القضاء وقدرته على الحركة ـ خاصة من باب الاجتهاد ـ المدخل الأسهل والأسرع لمعالجة هذا الوضع. وفي إطار لعبة السلطة والسلطات المضادة، يمكن للقضاء أن يملأ الفراغ الناتج عن هذه المتغيرات، سواء على صعيد الفاعلين من شركات، منظمات غير حكومية، حكومات، منظمات دولية، أفراد، أو الأسواق وضروراتها.
وفي ظل عصر السوق، لا يمكن إيجاد توازن بين كل تلك الجهات، سوى من خلال القانون. وفي ظل غياب مدلول قانوني معولم واضح لكثير من القضايا الشائكة، قد تكون قرارات واجتهادات المحاكم، هي المدخل لواقع جديد يتبلور حالياً، في ظل التباين في العلاقة بين العولمة والقانون من جهة، والفراغ في السلطات العالمية المحوكمة من جهة أخرى.
سلام الربضي :باحث في العلاقات الدولية بيروت
http://www.salamalrabadi.blogspot.com/
[email protected]
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت