وصلتني بعض التعليقات على إحدى الحلقات الماضية أعتبرها وجهة نظر لها احترامها وإن اختلفت معها إلى حد ما؛ ترى أن الغرب العلماني الملحد اللا ديني في صراعه معنا في هذا العصر لا يبني سياساته العدوانية ضدنا على أسس دينية ولكن على أساس المصالح السياسية والاقتصادية له في وطننا، لذلك هم يعترضون عن مصطلح الحرب الصليبية وأن استخدامه يجب أن يكون استخدام رمزي للتدليل على مدى همجية الغرب في حربه ضدنا فقط ولكن ليس بمعناه الديني الحرفي! عن نفسي لا أريد كما أوضحت للبعض أن نختلف حول المصطلح وننشغل عن المضمون وأبعاد الهجمة اليهودية – الغربية ضد الأمة والوطن، لأني أوقات أستخدم مصطلح الهجمة الغربية الحديثة وأوقات أضيف لها مصطلح الصليبية للإشارة إلى الروح التي تحكم الغرب في حربه ضدنا. وقد توقعت أن يعترض البعض على العنوان والمضمون لذلك كنت مقرر ان أختم الحلقات بحلقة توضيحية تؤكد أن الروح والدوافع الدينية لدى الغرب لم تغادره تفكيره ومخططاته ضدنا كمسلمين تحديداً!
فنحن نجد أنه في الوقت الذي مازال يبحث فيه كتابنا عن مبررات غير دينية لحرب الغرب ضدنا سائرين على نهج مرجعياتهم الغربية التي ينقلون عنها تحليلاتهم وآرائهم التي تخفي حقيقة دوافع الغرب ضدنا نجد أن بعض الكتاب الغربيين الموضوعيين يعترفون بمدى سلطان الكتاب المقدس على النصارى في حروبهم وعلاقاتهم بالآخر غير الغربي. ودون الدخول في تفاصيل الأحداث التي أدت إلى الحروب الدينية ونشوء الدول القومية في أوروبا؛ نقول: أن المجتمع الغربي عندما تخلص من سطوة وسيطرة الكنيسة نهاية العصور الوسطى الأوروبية انتكس انتكاسات مدمرة إنسانياً في علمانيته وإلحاده ووثنيته، إلى أن وصل به الحال إلى ما نحن عليه الآن من وثنية بشرية ودين "أخلاق السوق" كما وصفه المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، لكنه لم يتخلى فيها يوماً عن دينه عند تعامله مع الآخر المسلم ولا عن روحه الصليبية في علاقته مع المسلمين.
يقول القس البريطاني مايكل برير في كتابه "الكتاب المقدس والاستعمار" إن الباحثين الغربيين غالباً ما يخفون حقيقة توظيف الدول الغربية للكتاب المقدس عموماً في تسويغ الاستيلاء على بلاد "الكفار" ونهب ثرواتها واستعباد سكانها. و"يرى أن بعض تأويلات الكتاب المقدس اكتسبت أبعاداً عنصرية عندما تم توظيفها (استعمارياً) في إبادة شعوب أخرى بامتداد تاريخي من أمريكا الجنوبية إلى فلسطين". ويضيف: "إن الكتاب المقدس يتمتع بسلطة فريدة لدى اليهود والنصارى؛ "فهو كلمة الله". يقصد أول عبارة في سفر التكوين، السفر الأول في التوراة، وهي أول آية في الكتاب المقدس "في البدء كانت الكلمة، والكلمة هي الرب" كما أوضح ذلك يوحنا في إنجيله. وأوضح برير أن جميع الاحتلالات الغربية الصليبية وجرائم الإبادة الجماعية وغيرها تمت بهذه الكلمة وسلطانها على نفوس وعقول أتباع الكتاب المقدس. ويعتبر أن (الكتاب المقدس) يثير مشكلة أخلاقية أساسية بالنسبة لمن يقرؤه ظاهرياً"، مشيراً إلى ملاحظة المؤرخ البريطاني "أرنولد توينبي" حين قال: إن استيلاء اليهود على فلسطين قبل نحو 60 عاماً انطلق من "نفس الاعتقاد الذي دفع بني إسرائيل لإبادة الكنعانيين بأمر من الرب. وهو أيضاً الذي دفع بالبريطانيين للاستيلاء على أمريكا الشمالية وأيرلندا الشمالية وأستراليا، ودفع الهولنديين للاستيلاء على جنوب إفريقيا، والصهاينة للاستيلاء على فلسطين".
وترى المؤرخة الفرنسية صوفي بسيس في كتابها "الغرب والآخرون: قصة تفوق" الذي أرادته أن يكون مواجهة مع الذات الغربية بالتأريخ لنظرة الغرب إلى نفسه وإلى الآخرين وتقاطعها مع نظرة الآخر إليه: أن "تزاوج (المسيحية) الأوروبية مع العرقية هو الذي شكل طبيعة الانتماء المزدوج الذي جعل غزو أميركا مشروعاً. ولإنجاح هذا الغزو (الاستيطاني)، ارتكب الأوروبيون أول إبادة بشرية في التاريخ. ففي أقل من 30 سنة أبادوا حوالي ثلاثة أرباع السكان الأصليين لأميركا. ومن خلال تأسيسها للتطهير والإقصاء العرقي (في الأندلس) والاكتشاف (للعالم الجديد)، تجسد تحرك أوروبا في المراحل الأولى عبر ثلاثة عناوين: الدين (المسيحية)، والنقاء العرقي، والتفوق العرقي. وقد استخدمت هذه المسوِّغات لتبرير غزو العالم والسيطرة عليه.
الغرب اليوم كما هو بالأمس
والغرب الصليبي اليوم كما هو بالأمس يرفع شعارات كاذبة ووهمية وخادعة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب هدفه من ورائها القضاء على الإسلام وتدمير مقومات القوة الكامنة فيه التي تمنعه من التمكن من السيادة على المسلمين وإخضاعهم الإخضاع التام. ولو تأملنا أوجه الهجمة الغربية الحديثة نجدها في جوهرها تستهدف الإسلام وتدمير مقوماتنا العقدية والسياسية والأخلاقية والمعنوية وتدمير قيمنا وتفكيك وحدتنا والجغرافية والمجتمعية وغيرها واحتلالنا واستعبادنا ونهب ثرواتنا ومقدرات وطننا من خلال احتلال عقولنا باستنساخ قيمه وعقائده وسلوكياته! فعنوان الهجمة الحديثة محاربة ما يزعمون أنه (إرهاب) أي الإسلام ونشر قيم الحرية وحقوق الإنسان وإقامة الدول المدنية التي تقوم على أساس الديمقراطية والمواطنة وتطلق العنان للحريات الفردية وتنادي بتحرير المرأة وحرية الاختيار والتشريع القائمة على مبدأ حرية الاختيار الديمقراطي وغيرها!
ومن هذا المبدأ ينطلق دعاة العلمانية المطالبين بالدولة المدنية على الطريقة الغربية لهدم أعز وأغلى ما نملك، عقيدتنا وقيمنا الأخلاقية
والاجتماعية التي تميزنا عن المجتمعات الغربية من خلال مطالبتهم بالتغيير تحت تلك الشعارات البراقة الهدامة التي ينساق خلفها الجهلاء ومرضى النفوس بوعي أو بدون وعي وهم لا يدركون أنهم يحطمون كياناتهم الوطنية ويدمرون وحدتهم المجتمعية، ويسهلون تتدخل الغرب في أوطاننا واختراق سيادتنا الوطنية والعقدية والاجتماعية لتدمير إسلامنا لأن ما يطالب به أنصاره في وطننا يستهدف بالدرجة الأولى خصوصيتنا الدينية ومنظومة قيمنا الأخلاقية والاجتماعية! وأجلى مثال على ذلك إضافة إلى ما يجري في بقية أقطار الوطن؛ مالي! وهنا أقتطف بعض ما ورد في مقالة نشرها "مركز التأصيل للدراسات والبحوث" بعنوان "ماذا يحدث في مالي؟!اقرأ لتعرف! " أرسلها لي أحد المتابعين لحلقات الموضوع فيها ما يؤكد ما سبق أن ذهبت إليه في حلقات ماضية ولكن دون ذكر دليل عليه من واقع ما يجري في مالي، حيث جاء فيها:
شهدت مالي تمرداً عسكرياً في 21 مارس 2012م، حيث سيطرت مجموعة من العسكريين الماليين على السلطة، بعد استيلائها على القصر الرئاسي في العاصمة باماكو، وتم هذا الانقلاب قبل 5 أسابيع من الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في مالي، والتي كانت مقررة في 29 إبريل الماضي، وبرَّر القائمون بالانقلاب موقفهم بالقول: إن “حكومة الرئيس المطاح به لم تدعم بشكل كافٍ المعركة التي يخوضها جيش مالي ضد الطوارق العرب في الشمال الذي يعجّ بالأسلحة والمقاتلين”. فالانقلاب الذي حدث في مالي سببه العداء للإسلاميين في شمال مالي، فالانقلابيون “العلمانيون” من صغار الضباط في الجيش المالي يرون أن في سيطرة الإسلاميين على زمام الأمور في الشمال المالي خطراً عليهم، لأنّ منهجهم قائم على العلمانية وإزاحة الدين عن حياة الشعب المالي، رغم أن الإسلام هو دين أغلبية الشعب حيث يشكل المسلمون حالياً نحو 90% من سكان مالي التي تعتبر أكبر دولة في غرب إفريقيا، بينما لا تزيد نسبة المسيحية باختلاف طوائفها عن نسبة 5 % من الشعب المالي، ويدين بديانات أخرى بقية الشعب البالغ نسبتهم 5 %.
وتزامناً مع هذا الانقلاب أعلنت عدة جماعات إسلامية في منطقة أزواد (الشمال المالي) وعلى رأسها حركة “أنصار الدين” التي تسيطر على مدينة تمبكتو في شمال مالي آنذاك أنها تخوض حرباً من أجل الإسلام في مالي وحفاظاً على الهوية الإسلامية لسكان المنطقة وأنها ضد أي ثورة لا تندلع باسم الإسلام. وقال عمر هاماهاي القائد العسكري للحركة في شريط فيديو صوّره هواة: “إن حربنا حرب مقدسة، إنها حرب قانونية.. نحن ضد عمليات التمرُّد، نحن ضد الاستقلالات، ونحن ضد جميع الثورات التي لم تنشب باسم الإسلام. وأضاف: “ما نريده نحن ليس أزواد”. إذن فما يحصل في مالي هذه الأيام من قِبل الإسلاميين في الشمال ليس تمرداً على الدولة ولا هدفه الانفصال وإنما هو تمرُّد على التمرد العلماني، وطلباً لحكم الشريعة وتحكيمها في حياة شعب مالي المسلم. لأجل ذلك حملت دول غربية -وعلى رأسها فرنسا- على عاتقها محاربة هؤلاء المجاهدين وكبح جماحهم؛ خوفًا من بزوغ فجر جديد لدولة إسلامية وليدة تتحاكم إلى شرع الله؛ وحتى لا يتم “تصدير” هذه الفكرة إلى غيرها من البلدان المنابذة لحكم الشريعة.
من ناحية أخرى كشف المتحدث باسم حركة أنصار الدين المالية المعارضة، سنده ولد بوعمامة، عن سر الحملة العسكرية الفرنسية في مالي، وحذّر من أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي يستهدف بالدرجة الأولى الجزائر، داعيًا الجزائريين للوقوف إلى جانب الحركة. وقال في حوار مع صحيفة (الشروق) الجزائرية: “إنه مشروع فرنسي لإعادة مكانة فرنسا في المنطقة التي حظيت بها خلال ستينيات القرن الماضي؛ ففرنسا أرادت هذه الحرب وخططت لها منذ سنوات، وهي الآن تنفذها، حيث الصراع يعود إلى سنوات، بل إلى عقود من الزمن”. فقد بدأت فرنسا منذ صباح (11/1/ 2013م) التدخل العسكري شمال مالي؛ لمطاردة الجماعات الإسلامية التي تسيطر على تلك المنطقة، وعلى رأسها جماعة أنصار الدين، كما أعلنت المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) أنها تنوي إرسال مقاتلين إلى مالي؛ لمساعدة الحكومة في وقف مدّ الإسلاميين.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أختم بفقرة لخص بها الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد علاقة الغرب بالإسلام تحديداً: "ومن العجب أن هذه الحضارة الأوروبية حين تمت لها الجولة على الكنيسة وارتدت إلى أصولها الوثنية وأحيت تراث اليونان والرومان الحديث أخذت تتعامل مع العالم الإسلامي بروح هي خليط من هذه المتناقضات فكانت ملحدة في كل شيء إلا مع المسلمين فهي صليبية تتحالف فيها الدولة العلمانية مع الكنيسة ويقوم فيها الرجل الواحد بدور المنصر، والعالم المستشرق والجاسوس المحترف في آن واحد أحيانا".
التاريخ: 6/3/2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت