من المفيد وطنيا مراجعة التاريخ دائما، ليس من باب الترف او المزايدة، وإنما للاستفادة من كافة المحطات التاريخية، وللتعامل مع الحاضر والمستقبل بواقعية ثورية، تساعد في تجنب المزيد من المآسي وتضمن تحقيق الاهداف الكبيرة التي يناضل من اجلها أي شعب .
وفي تاريخ شعبنا كثير من المواقف التي شكلت عماد مراحله النضالية، وكان لها دورا حاسما في نشوء وتطور القضية الوطنية الفلسطينية، البعض منها ساهم في تعقيد المساعي لحل هذه القضية، بل ووفر للاحتلال الإسرائيلي نقاط قوة مكنته من السيطرة على أرضنا ومقدراتنا الوطنية، وإلحاق الضرر بشعبنا على كافة المستويات، والبعض الأخر ساهم في تقريبنا أكثر من تحقيق هدف التحرر الوطني والاستقلال والعودة، وساعد في محاصرة الاحتلال المجرم ومخططاته التصفوية التوسعية .
احدى المحطات التاريخية التي لعبت دورا حاسما في واقع شعبنا هي حرب عام 1948م، حيث كان من نتائجها قتل شعبنا وتهجيره عن أرضه، والاستيلاء على مقدراته من قبل العصابات الصهيونية، بما يعنيه ذلك من فرض واقع اصطلح على تسميته " بالنكبة "، وما زلنا لهذا اليوم نتجرع ماسي هذه النكبة، وما تلاها من نكبات متنوعة ومتعددة، لنعيش اليوم النكبة بكافة فصولها، شعب مشرد ومشتت في أصقاع الأرض، تكالب غير مسبوق من قبل المجرمين الإسرائيليين على الأرض وبناء المستوطنات وجدار الفصل العنصري وتهويد للقدس، انقسام داخلي كارثي، تكالب من بعض المتآمرين العرب على قضيتنا ومحاولة تبديد استقلال تمثيلنا بعنوانه منظمة التحرير الفلسطينية، اتفاقيات لم تلتزم بها إسرائيل ونجحت في أن تحاول غالبها لسيوف على رقابنا، متاجرة بنضال وآلام شعبنا لأجل مصالح فئوية وإقليمية متعددة، انقضاض على منجزات شعبنا الوطنية ومحاولة احياء مشاريع سبق ان قبرها شعبنا وخاصة مشاريع التوطين ضمن واقع جديد سماه البعض "بالربيع العربي".
ما أردت الوصول إليه، انه ومنذ النكبة الكبرى وحتى الان توالت المصائب على شعبنا، وتراجع شعارنا الوطني لينحصر في إقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967م، إلى جانب النضال من اجل عودة اللاجئين الفلسطينيين طبقا للقرار 194، هذه الأهداف التي لم يكتب لها الحياة حتى الآن.
منذ تلك الحرب وحتى الآن يمكن القول أن إسرائيل استطاعت تحقيق غالبية أهدافها العدوانية، وإن كنا نؤكد بان الحركة الصهيونية والامبريالية العالمية والمتآمرين في منطقتنا هم من يتحملون المسئولية الأساس عن نكبة شعبنا وما تلاها، يبقى السؤال الأهم، هل كان بالإمكان تجنب هذه المأساة كعرب وكفلسطينيين، او على الأقل ان نضع الموانع التي تحد من تحقيق الحركة الصهيونية لكافة اهدافها الإجرامية في المنطقة ؟
إن التاريخ يقول انه كان بالإمكان ذلك عام 1947م، لو أن الزعامات العربية في حينه تعاملت بايجابية مع موقف الشيوعيين الفلسطينيين وقتها، ما الذي تضمنه هذا الموقف ؟
بعيدا عن السرد التاريخي، أشير إلى أن الشيوعيين الفلسطينيين كانوا قد تبنوا مع عشرينات القرن المنصرم شعار إقامة الدولة الفلسطينية على كافة الأراضي الفلسطينية لتضم العرب واليهود الذين لجأوا إلى فلسطين، لكن ذلك أصبح متعذرا بسبب سياسة الحركة الصهيونية الساعية للسيطرة على الأرض وتهجير سكانها العرب عنها، وإكساب الصراع طابعا عقائديا، وقد عبرت ثورة 1936م عن ذلك بالدم، لتؤكد بان واقعا جديدا مضمونه الفصل قد نشا في فلسطين بين العرب واليهود .
وان كانت المقاومة والنضال ومناهضة مساعي ومآرب الحركة الصهيونية في فلسطين واجب وطني، فقد خاض الشيوعيون الفلسطينيون غمار ذلك بكل ما استطاعوه، منطلقين من فهم ان الصراع هو مع الحركة الصهيونية بصفتها الاستعمارية التوسعية، وليس مع اليهود الذين تستغلهم هذه الحركة لتحقيق أهدافها الإجرامية، وقد رصد الشيوعيون الفلسطينيون في حينه تطور الواقع السياسي، وتأثيرات التحولات العالمية على الصراع الدائر في فلسطين، وكانت خشيتهم أن تستطيع الحركة الصهيونية في حينه من تحقيق هدفها الاساس المتمثل بتهجير شعبنا والسيطرة على أراضه، لذا فقد تعاملوا بواقعية مع قرار التقسيم "181" الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1974م، حيث ارتأوا فيه ظلما تاريخيا للشعب الفلسطيني لكنه أفضل الحلول السيئة، ذلك أنهم كانوا يدركون نوايا وأهداف الحركة الصهيونية التي لم تكن تنحصر في السيطرة على نصف فلسطين تقريبا كما نص قرار التقسيم، وإنما بالسيطرة عليها كاملة، والاهم " تطهير " سكانها العرب منها، كما أنهم رأوا في قرار التقسيم شرطا ضمنيا بان الاعتراف بإقامة الدولة اليهودية مقرون بإقامة دولة عربية للفلسطينيين فوق ما يقارب نصف ارض فلسطين التاريخية . طبعا في ذلك الوقت رفضت الزعامات العربية هذا القرار، حيت استغلت الحركة الصهيونية هذا الرفض لتنفيذ مخططاتها التوسعية العدوانية .
لقد جاءت موافقة الشيوعيين الفلسطينيين على قرار التقسيم على قاعدة " أفضل الحلول السيئة "، وذلك لمنع الضرر الأكبر الذي كان يتوقعوه، وهو واقع تهجير شعبنا، حيث قامت إسرائيل عام 1948م بشن حربها محققة بذلك هدفي التهجير والاستيلاء .
يقول البعض بان الاعتراف بقرار التقسيم في حينه كان بمثابة "خيانة"، وهذا بالضبط ما اتهم البعض به رفاقنا في حينه، مما أدى إلى تحملهم الكثير من الماسي والعذابات، لكن السؤال المطروح الآن ومع إحياء الذكرى الخامسة والستين للنكبة الفلسطينية، أليس من الواقعي القول اليوم، وبعد ما وصلنا إليه من حال كارثي - بعيدا عن المزايدة التافهة - أن ما رأه الشيوعيون الفلسطينيين في حينه كان قمة التعبير عن المصلحة الوطنية العليا؟ الم يكن موقفهم طليعي بحق عندما وافقوا على قرار التقسيم رغم إدراكهم للظلم الذي يلحقه بشعبنا في حينه؟ أليس من المنصف القول بأنه لو تم التعامل بواقعية مع القرار الاممي " التقسيم " بطريقة صحيحة، لاستطعنا تجنب الكثير من الماسي والكوارث والقتل التي عشناها على مدار أكثر من نصف قرن، ولتمكنا من محاصرة المشروع الصهيوني في أضيق نطاق ممكن؟؟ ولاستطعنا أن نبني دولتنا على نصف فلسطين تقريبا، وان نرسخ جذور شعبنا فوق أرضه بدل من تهجيره، وبدل من أن نطالب اليوم بإقامة دولة على اقل من ربع فلسطين ؟؟ ولكان الصراع مع الحركة الصهيونية اخذ بعدا أخر يمتلك فيه شعبنا أدوات قوية أهمها الأرض والدولة؟ لماذا لا نُقر اليوم بكل جراءة ان نكبتنا بالأساس في ضيق الافق السياسي لدى البعض، وفي طريقة فهمهم وتعاملهم مع واقعنا الفلسطيني، وفي اؤلئك الذين لا يرون ابعد من انوفهم لتحكمهم مصالح فئوية وارتباطات إقليمية؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت