كنت في مقتبل العمر، أتحسس طريقي إلى ميدان النضال، وكان لصوت الثورة الفلسطينية صدا يضرب في أعماق الوجدان .. احرص على سماعه كل مساء .. ارفع صوت المذياع لكي يسمعه المارة والجيران، ربما رغبة مني في أن يعرف من حولي أني انتمي لمعسكر الثورة، أو ربما لأنني كنت راغب
في أن أُجند ضمير ووجدان من حولي إلى هذا الدرب من خلال عشق الكلمات الثائرة، وترديدها لتزهر نارا ونورا في القلوب وفي السلوك.. ثوري ثوري يا جماهير الأرض المحتلة .. من أكثر الأغنيات الثورية التي كانت تؤجج المشاعر وتلهب الوجدان .. كانت الكلمات، وكانت لوحات الفن الفلسطيني التي تزين غرفتي كدالة إضافية على انحيازي لدرب الثورة، وكأحد رموز التحدي للاحتلال الإسرائيلي الذي كان يبطش بكل من يسمع أغاني الثورة، أو يعلق رسما ثائرا على جدران غرفته .. هي عناصر لم تكتمل بدون رموز وثائري الكفاح الوطني .. رجال المرحلة وكل المراحل .. الفدائيون الذين رسم أزيز رصاصهم مسار القضية، واخترقت حناجرهم الصمت العربي المذل .. ليعلنوا بمواقفهم المشرفة استمرار مسيرة شعب رفض الظلم والطغيان، وأبى إلا أن يكون مكافحا مناضلا رغم البطش والإجرام .
من بين هؤلاء كنت اسمع عن قائد فتحاوي قاوم المحتلين، طورد وعذب وسجن، وفي قلب السجن كان ثائرا متحديا إدارات القمع الصهيوني، ليخلق من السجون أكاديمية للثورة والثوار .. اسم سمعته ولم اعرفه إلا بعد سنوات وسنوات.. وعندما قابلته بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال الإسرائيلي وبعد ان قضى فترة أبعاده في منفى "الدهنية" جنوب شرق رفح، وجدت في أحاديثه ما يؤنس القلب ويقنع العقل .. وجدته قريبا مما نؤمن به وتربينا عليه في بداية مسيرتنا الكفاحية في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، كان يصعب عليّ حينها أن أدرك كيف لوحدة الموقف السياسي أن تجد طريقها مع الآخرين ممن ينتمون إلى فصائل فلسطينية أخرى، لكني عرفت فيما بعد بان هناك فصائل تقاسمنا الموقف وتتفق معنا، وفي القلب من ذلك هناك أشخاصا يمتازون في ذلك، من بينهم كان المناضل القائد أبو علي شاهين، هو القائد في حركة فتح التي يجمعنا بها دربا كفاحيا واحدا، وأهدافا سياسية وحدتها مسيرة النضال لتتجانس فيما بينها، وهو شخص يحمل من الفكر والوعي ما يجعلنا الأقرب والأكثر انسجاما .
كان الأخ والرفيق أبو على رجل فكر.. صاحب مواقف مبدئية، امتاز بصلابة الطرح، وبقدرة متقدمة على فهم الأمور وتحليل المواقف.. عندما كان الوقت يسعفنا لنجالسه، تشعر انك أمام موسوعة ثقافية بكل أبعادها الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، واهم ما كان يميزها طابعها التقدمي، وبرغم إخلاصه الكبير لانتمائه الفتحاوي الذي كان يفخر به دوما، كان اشد إخلاصا بل وتعصبا لفلسطين ولمنظمة التحرير الفلسطينية، واشهد بأنه لم يكن يوما ممن يحطون من قدر الآخرين أفرادا وتنظيمات.
كنا نشعر في الحزب بان أبو علي رفيقا كما هو اخا، اذكر انه في الذكرى الأولى لتأبين الرفيق القائد الشهيد أيمن البهداري بمحافظة رفح، دعوناه لالقاء كلمة باسم القوى الوطنية في المحافظة، سعد كثيرا بدعوة الحزب، وجاء متحمسا لرثاء رفيقنا الشهيد، وهو الذي تحدث عن دور حزبنا وتاريخه بأكثر مما نتحدث عنه، لم يتردد قط في أن يُذكر الحضور بالموقف الطليعي والتقدمي للحزب، ولا عن قدرته في فهم الأمور، واستشعاره للأخطار المحدقة بالقضية الوطنية قبل غيره، وأكثر ما كان يضفي على حديثه عذوبة خاصة، عندما يذهب إلى ما هو اجتماعي، ليشعرك والآخرين بأنه جزء أصيل من معسكر الديمقراطية والعلمانية والعدالة والاشتراكية، ومن المدافعين بكل مبدئية عن حرية المرأة، وعن الفقراء والمهمشين، ولا يمكن أن ننسى موقفه عندما شاركنا - برغم مرضه الشديد - الاحتفال الذي نظمه الحزب في الذكرى الواحدة والثلاثين لإعادة تأسيسه، وتأبين الرفيق الراحل زياد البلبيسي .
أكثر ما كان يميز هذا القائد الفذ، جراءة الموقف، والنقد اللاذع الذي كان يصيب حركته قبل غيرها، احترمت فيه هذه الصفة، فليس من السهل أن تجد من يقسو على حزبه أو فصيله بالطريقة التي كان يتحدث بها أبو علي.. كان دائما يرفع لواء المحبة، ليقول نحن الاحوج لان تجد مدرسة المحبة طريقها إلينا، وكان يوجه حديثه لأبنا حركته، وكذلك لأبناء الحركة الوطنية، وقد امتازت مواقفه بالرفض الشديد للانقسام الفلسطيني، حيث عبر في أكثر من موقف شجاع عن ذلك، محذرا من تغول الفكر المتطرف الاقصائي في ساحتنا الفلسطينية، داعيا إلى توحيد الصفوف للدفاع عن المشروع الوطني، وعن الفكر المستنير، وعن الثقافة الوطنية التي كان يوصفها دائما بالجامعة والموحدة لكافة أطياف الشعب الفلسطيني . وقد بقي تاريخه الكفاحي ناصعا برغم ما حاول البعض النيل من سمعته خلال توليه لمهامه الوزارية في السلطة الوطنية الفلسطينية .
أبو علي .. لقد رحلت في زمن يحتاج الرجال من أمثالك .. رحلت ليقول أبناء شعبك قول فاصلا مشرفا في مسيرتك الوطنية والكفاحية .. حُملت على أعناق الثوار كلمسة حب ووفاء لك، ورافقك إلى متواك الأخير الآلاف ممن أحبوك من مختلف الأطياف السياسية، ومن أبناء محافظتك الذين حفظوا مسيرة نضالك، وشاهدوا في مختلف المراحل كيف كانت قسوة الاحتلال اتجاهك، واتجاه أسرتك المناضلة، عرفوك مناضلا وطنيا عنيدا في مواجهة الاحتلال .. وأدركوا اليوم بعد أن فارقتنا مدى حاجة الوطن لأمثالك، وحاجتهم لكل من يعشقون درب الحرية، وللمدافعين بكل صلابة عن وحدة الشعب والوطن وعدالة القضية، وعن مستقبل تتوج الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة جبين أبنائه وبناته على حد سواء .
المجد لك أيها الفارس .. والتحية لكل الذين يرسمون على طريق النصر علامة
غزة/ 29-5-2013م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت