لقد كان لي شرف رئاسة اللجنة الحكومية لكسر الحصار واستقبال الوفود لعدة سنوات, الامر الذي منحني الفرصة للقاء بالكثير من الشخصيات الاعتبارية ورؤساء المؤسسات والجمعيات العربية والإسلامية ونشطاء المجتمع المدني والشباب المتحمس من أبناء الجاليات المسلمة في الغرب، ومن أسيا وأفريقيا.. وآخرين حطوا رحالهم متضامنين على أرض غزة وفلسطين، حيث تبادلنا الرأي والمشورة معهم، وتفهمنا العواطف التي ساقتهم بكل همّة وحماس للقدوم إلى غزة، والتدافع من كل فج عميق، لإظهار دعمهم ومساندتهم ووقوفهم خلف الشعب الفلسطيني المحاصر.
لقد لفت نظري حجم الحماس الذي جاء بهم إلى غزة، وجعلهم يتجشمون كل هذا التعب والسهر والمعاناة, وحتى أن يجود البعض منهم بكل ما يملك كي يصل إلى غزة, وأن يسجد لتقبيل أرضها.. كانوا يعانقوننا والدموع تملأ مآقيهم، يهتفون لفلسطين وللمسجد الأقصى, ولبيت المقدس وأكناف بيت المقدس, ويتمسحون بالتراب الذي تحمل ذراته عبق أنفاس الصحابة والتابعين, وعلى ثراه بصمات خطى قطز والظاهر بيبرس وصلاح الدين, وقبلهم - ومنذ ألاف السنين - كانت فلسطين أرض الأنبياء ومهد رسالات السماء, وهي في المعتقد الإيماني أرض المحشر والمنشر، ومعراج الرسول الكريم.
فلا غرو أن يأتي المسلم من أقاصي الأرض شادَّاً إليها الرحال, عاشقاً بكل كيانه للحظات وجوده على أرضها, ويقتات منذ وصوله بنشوة العيش في مرابعها, مفعماً بالحيوية، يحاكي وضعية وصفية يجسدها قول القائل: "أُقَبِّـلُ ذَا الجِـدَارَ وَذَا الـجِـدَارَا".
لقد عشت أحاسيس كل هؤلاء القادمين ومشاعرهم الإنسانية والدينية الجياشة, وهذا الحب الطاغي لفلسطين وأهلها الصامدين في غزة العزة.
أتذكر تلك الفتاة الجزائرية التي قدمت للتضامن مع أهل غزة, وعندما لم تسمح لها السلطات المصرية في معبر رفح الحدودي بالدخول إلى غزة, لجأت إلى الأنفاق وحققت حلمها في الوصول الى غزة, الي فلسطين الأرض المباركة, لقد شدتني جُرأتها وإصرارها، فسألتها حول الدافع وراء تلك المغامرة، وتجشمها ركوب المخاطر، وقلت لها: ألا يشكل ذلك خطراً عليك، خاصة وأنت "فتاة" وحيدة؟! ردت - بقوة - قائلة: "يبدو أنكم لا تُقدرون قيمة فلسطين, فهي القضية التي نتمنى أن نموت لأجلها وعلى أرضها نجاهد.. لقد تركت الجزائر وودعت أهلي هناك, ودعوت الله أن يُكرمني بالشهادة على ثرى هذه الأرض المباركة.. لقد تزوجت – بعد عدة شهور - من فلسطيني، وقامت بإنشاء جمعية خيرية لرعاية الأيتام، وجلب الدعم من بلادها لخدمة فلسطين وأهلها.
لقد شاهدت خلال تلك السنوات التي أعقبت الحصار على قطاع غزة قدوم الألاف من العرب والمسلمين، وحتى من أوروبا وأمريكا, وإن خلف الكثير من المتضامنين قصصاً يرويها حول دواعي قدومه إلى غزة؛ بعضها إنساني وبعضها ديني, وبعضها سياسي, وبعضها الرغبة في الجهاد والمرابطة على أرض فلسطين.
تاريخياً, كانت فلسطين محطة مهمة لقوافل الحجيج, وكانت القدس والمسجد الأقصى محط رحالٍ للعبادة والتجارة والبركة.. واليوم، بعد أن أصبح الوصول إليها صعب المنال بسبب الاحتلال، فإن البعض في شمال أفريقيا يعتقد بأن حجه - إذا لم يقم بزيارة القدس - غدا منقوصاً؛ باعتبار أنه "حجّ ولم يقدس".
قد يتساءل البعض لماذا كل هذه التوطئة والاسهاب في الخطاب، ونحن في سياق موضوع الشاب المسلم "بدر خان" الذي تقدم بعد زيارته لغزة بطلب يد ابنتي "مفاز".. لقد جاء متضامناً من مدينة دلهي بصحبة أكثر من مائة آخرين مع قافلة آسيا لزيارة قطاع غزة، وأخذته مسيرة الرحلة التي امتدت من الهند إلى إيران إلى تركيا ومنها إلى سوريا والأردن وصولاً إلى مصر ثم الانتقال بصعوبة منها إلى غزة.. رحلة لو كانت على ظهور الإبل لتقطعت أكبادها؛ أسبوعان من وعثاء السفر وقلة الزاد ومعاناة التعامل مع شرطة الحدود... ثم الوصول أخيراً إلى معبر رفح وبوابة صلاح الدين، حيث تنتهي معاناة الرحلة الطويلة، فالسفر – كما يقولون – قطعة من العذاب، وتتبدد مع اللقاء وكلمات الترحيب ومشاعر التآخي والمحبة كل أشكال التعب والمشقة، وتنفرج بالراحة الأسارير، وأخيراً .. يهتف الجميع، وصلنا إلى غزة.
لقد استقبلت وابنتي مع إخواني في اللجنة الحكومية لكسر الحصار مئات الوفود الذين رافقناهم في كل خطواتهم لتفقد مواجع غزة وأحزانها، وشاهدنا بصحبتهم مظاهر الصمود والعزة في بيوت الكثيريين من أهل غزة، وجمعنا لهم احجاراً وحصى للذكرى من ركام البيوت والمؤسسات التي دمرها الاحتلال في عدوانه على غزة، وغادروها ومعهم الكثير من الهدايا والحطَّات الفلسطينية، وأخذوا من ترابها لهم وللأصدقاء في بلدانهم طلباً للبركة والتبرك، وبعضهم قرر المصاهرة والعودة إلى غزة – إذا سمحت الظروف - للإقامة الدائمة بين أهلها.. ومن بين هؤلاء عريسنا الهندي "بدر خان".
تركيا: لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ
بعد الحرب العدوانية على قطاع غزة في ديسمبر 2008، جاءت الكثير من الوفود الإغاثية والطبية والإعلامية لدعم صمود أهل غزة، وقد تشرفت في استقبال بعضها واستضافتهم في بيتي، حيث لم يتسنَّ للبعض منهم الوصول إلى مدينة غزة، وذلك بعد أن قطعت دبابات الجيش الإسرائيلي الطريق في منطقة نتساريم ومنعت الوفود التضامنية من الوصول إلى المدينة.. كانت هذه الاستضافة للوفد التركي والإقامة معنا في البيت هي المدخل للتعارف والتواصل.. بعد سنتين من ذلك اللقاء، تداخلت العلاقة الأسرية، ثم جاءت "القسمة والنصيب"، حيث تقدمت العائلة بعد أن قررت الإقامة في غزة بطلب يد ابنتي "إشراق" للزواج.
لم أتردد لحظة في القبول، ولكن كان عليَّ مشاورة ابنتي، وعمل المطلوب من إجراءات الاستشارة والاستخارة ونحو ذلك، وهي سلوكيات إسلامية تعودنا على العمل بها.
وقد تحدثت – آنذاك - في حفل عقد القران، وقلت: كم أنا سعيد بهذا النسب، والذي يذكرني بأيام الإسلام وأمجاد العثمانيين.. ندعو الله أن يُكرمنا بهذا الزواج بأحفادٍ يحملون نفحات التاريخ ويعيدون لنا ذكريات السلطان عبد الحميد، ومن سبق من عظماء الفاتحين؛ السلطان سليمان القانوني ومحمد الفاتح.
الهند تأتي ثانياً...
بعد عام من هذا الزواج المبارك، إذ بعائلة أخرى من دلهي تتقدم لخطبة ابنتي الثانية مفاز، لقد ترددت حينها بعض الوقت، فالهند بلد بعيد ولم يُكتب لي زيارتها بعد، نعم لقد زرت الباكستان وأفغانستان وأعرف الكثير عن مواطني تلك البلاد، أما الهند فقد جمعتني علاقة العمل بالإمارات ببعضٍ من شبابها.
استغرق الأمر وقتاً في السؤال عن الشاب والعائلة، برغم معرفتنا به من خلال قافلة التضامن الأسيوية، كل الجهات التي تواصلنا معها في الهند - السفير والقنصل وبعض الطلاب الفلسطينيين هناك - أشادت به وجاءت أحاديثها مطمئنة، فالشاب ناشط في الجامعة للقضية الفلسطينية، وأسرته من الأسر الإسلامية العريقة والميسورة كذلك بالهند، ووالده كان يعمل موظفاً كبيراً في البلدية وهو طالب دكتوراه في العلوم السياسية، وتمنياته أن يعمل في فلسطين بعد تخرجه.. استكملنا - بالطبع - باقي ما نريد معرفته عن العائلة عبر "Skype".
إنني اعتز بابنتي أيَّما اعتزاز، فهي صاحبة همّة عالية، وناشطة في التعريف بالقضية الفلسطينية، حيث تمتلك اللغة التي تؤهلها لمخاطبة غير الناطقين بالعربية، ولديها الوعي الذي يجعلني أفتخر بها، وأنا على ثقة بأنها وزوجها سيكونان – إن شاء الله – خير سفير لفلسطين بالهند وفي الجامعة التي يدرسان بها.
قفشات ولطائف..
- في حفل عقد قران ابنتي "إشراق" سألني المأذون كم المهر، قلت: دينار.. احتج البعض.. قلت: إذن نحن نقبل بأي مبلغ تقدمه العائلة، فإيماننا هو أن أيسرهن مهرًا أكثرهن بركة". جاءت العائلة بالمهر المجزي، وسجلنا موقفاً إسلامياً كريماً بعدم التشدد في غلاء المهر، حتى إن أحدهم سألني مازحاً: يا دكتور.. هل لديك بنات أخرى للزواج.؟!
- جرت العادة في الهند، أن والد الفتى لا يتكفل بأي شيء، فأهل العروس يتحملون كافة مصاريف الزواج؛ المهر والعفش والمتأخر.. قلنا لهم إن عاداتنا تختلف، فالشرع يُلزم العريس وأهله بتكاليف الزواج كاملة، قال والد العريس: لقد سبق لي أن قمت بتزويج ثلاثة من بناتي وقد تحملت كلفة زواجهن كاملة، والآن – وقالها ضاحكاً – سيكون "بدر" بمثابة الأبنة الرابعة التي سأدفع مهرها.. قلت له: أهلاً بكم، والمهر هو ما تستطيعون تقديمه أو ما تقدرون عليه.. وفعلاً، ذهبنا للمحكمة، وأنهينا عقد القران في مكتب فضيلة قاضي القضاة الشيخ حسن الجوجو، الذي أكرم وافدتنا، وأهدى العروسين مصحفين، وتمنى لهما في زواجهما الخير والسعادة.
- بعد أن تداولت وسائل الإعلام خبر زواج ابنة أحمد يوسف؛ القيادي في حماس، من هندي، اتصل بي الأخ الحبيب النائب إبراهيم أبو سالم، مباركاً ومستفسراً، لأن طبيعة الخبر كما أوردتها صحيفة القدس تستوجب الإيضاح، فوعدته أن أكتب شيئاً من باب تجلية الموقف، فنحن لسنا ملكاً لأنفسنا، بل قيمة مضافة للحركة والوطن.
- عندما قمنا بدعوة البعض من الأقارب والأصدقاء وجيران الحي، كان هذا الحفل بالنسبة لنا هو بمثابة الإشهار والتعريف بالزواج، لم يخطر ببالي أن خبر الزواج سيصل إلى كل المعارف والأحباب داخل الوطن وخارجه، لتصل لنا التهاني والتبريكات من كل أركان الدنيا الأربع.. شكراً لشبكات التواصل الإجتماعي، حيث الرسالة الواحدة فيها بعشرة ألاف رسالة مثلها.
- قال لي أحدهم: يا دكتور.. إيش معنى تركيا والهند؟ قلت: الأولى أقامت أعظم إمبراطورية إسلامية على الأرض وامتدت لثمانِ قرون، والعثمانيون تشرف صفحات التاريخ الحضاري الإسلامي بهم، وأنا عشت في تركيا وأعرف أهلها، والأتراك لهم محبة خاصة في قلبي، ولو طالت إقامتي الدراسية هناك لكنت تزوجت من تركية.
أما الهند، فالإسلام – كما تعلم - حكم تلك البلاد لمدة عشر قرون، وآخرها كانت الإمبراطورية المغولية التي امتدت لثلاثمائة عام، والتي يرجع الفضل لها في انتشار الإسلام في معظم أرجاء شبه القارة الهندية، ومعالمهم العمرانية هناك ما تزال شاهدة على عظمة ذلك التاريخ، ومن أشهرها قصر تاج محل؛ أحد أعظم عجائب الدنيا السبع. قال لي مازحاً: تُرى من هو نسيبك القادم؟ قلت: في الحقيقة، لم يعد لدّي بنات للزواج، ولكن بقي عندي ولد واحد؛ آخر العنقود، وآمل أن يجد قسمته ونصيبه بفتاة صالحة من إحدى بلاد المسليمن.
- جاءني أحد الجيران ممن حضر زواج ابنتي الأولى والثانية، وقال يا دكتور إذا كان عندك هيك عرسان مسلمين زي عرسان بناتك، أنا حاكم بناتي جاهزين.. قلت له: تأمل خيراً، إن شاء الله.
ختاماً.. وتلك الأيام نداولها بين الناس
في سابق العصر والزمان، كان الطلاب الفلسطينيون يذهبون للدراسة الجامعية في الدول العربية والإسلامية وبعض الدول الغربية، وعندما يعودون يأتي الكثير منهم بزوجات من تلك البلاد، وحيث لدينا زوجات من مصر وسوريا والجزائر ومن روسيا والهند وباكستان والفلبين وماليزيا، ومن أمريكا وبريطانيا وفرنسا والسويد، وحتى من أمريكا اللاتينية.. اليوم والحمد لله، أصبح لدينا جامعات عديدة، ولم تعد هناك حاجة للسفر لطلب العلم بعيداً عن أرض الوطن، ولكن في المقابل، هناك حنين وشوق لدى أبناء أمتنا العربية والإسلامية للقدوم إلى فلسطين.. وإذا تيسّرت أمور السفر وأصبح القدوم إلى غزة يتم بسهولة، فسوف نشهد سياحات دينية واجتماعية إلى قطاع غزة، كما سنجد - عندئذ - تدافعاً للزواج من فلسطينيات.. فبدل أن يصطحب أحدهم معه حفنة من تراب فلسطين للاحتفاظ بها في بيته بقصد البركة، فإن قلبه سيميل لشرف النسب والزواج من فلسطينية، لتحمل منه بالأولاد وتأتي بـ"البركة" إلى داخل بيته، وتتكاثر عائلته جيلاً بعد جيل، ويصبح الكون كله حضناً لفلسطين، وتتحقق بذلك بركتها في العالمين.
في الحقيقة، إن زواج بعض من قدموا من المتضامنين المسلمين من فتيات غزة مرجعه التقدير والاحترام العالي من ناحية، والاعجاب ببطولات الشعب العظيم من غزة العزة من ناحية أخرى.. إن التقارب والمصاهرة من بنات فلسطين؛ أخوات الشهداء وبنات الشهداء، هي من يجعل أبناء العرب والمسلمين يشدهم الشوق قائلين: "إلى فلسطين خذوني معكم".. لاشك، إنه شيء من الحب والقداسة لفلسطين .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت