يبدو أن النبوءات السياسية التي تحدثت عن عالم ما بعد أحادية القطبية قد برهنت على وجاهتها مؤخراً، فقد أشار أكثر من محلل وباحث ومراقب في السنوات الأخيرة أن مسألة تفرّد الولايات المتحدة في إدارة ملفات العالم لن تستمر طويلاً، وأن زمن القطب الأوحد ستغيب شمسه سريعاً وسيأفُل نجمه كما أفِل نجم القطبية الثنائية من قبل، وإذا كانت هذه الثنائية قد استمرت نحواً من 44 عاماً (1946 ـــــ 1990) فإن الأحادية لم تدم سوى نصف هذه الفترة أي نحو 22 عاماً فحسب (1991 ــــ 2013)، على اعتبار أن القادم سيكون نمطاً جديداً من عالم متعدد القوى ومتعدد الأقطاب.
وضعت الأزمة السورية العالم على المحك، وأظهرت بقوة تراجع نفوذ القوى العظمى القديمة، واتضحت معالم الأزمة الكونية بالانقسام الحاصل في محور "المولاة الدولية" بين تيار مؤيد لتسليح المعارضة السورية والسير نحو المزيد من الحرب وآخر يسعى إلى حل سياسي، وباتت دول محورية "كلاسيكية" كبريطانيا وفرنسا تقف محرجة أمام النظرة "الواقعية" التي تتبناها دولتان بحجم النمسا وتشيكيا اللتان تريان أن الحل في سورية لابد أن يكون سياسياً وأن دعوات تسليح المعارضة السورية تهدد الأمن الأوروبي نفسه.
منذ أشهر قليلة كان المجتمع الدولي على أعتاب تقسيم جديد للمنطقة، سعت خلالها بريطانيا وفرنسا لرفع حظر السلاح المفروض أوروبياً على سورية بغرض تسهيل إيصال السلاح إلى المعارضة المسلحة التي يسيطر عليها تيارات إسلامية "سنية" متشددة، كجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، إلا أن ممانعة باقي دول الاتحاد الأوروبي وضعت حداً للمساعي الفرنسية البريطانية، بعد أن حذرت من أن تسليح المعارضة في سورية يعني إيصال السلاح مباشرة إلى "الإرهابيين" في تماهي واضح مع الموقف الروسي الأخير الذي أُعلن في قمة الثمانية الكبار مؤخراً في بريطانيا العظمى، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن السلاح الأوروبي الموعود "لثوار" سوريا من الممكن أن يستخدم ضد الدول الأوروبية ذاتها وعلى أراضيها، وتخشى بريطانيا من تكريس التقدم الميداني الذي يحققه الجيش السوري وتريد أن تتدخل لمنعه، وهي تعلم أن أبواب الأمم المتحدة مغلقة بهذا الصدد، كما أن واشنطن منشغلة باستكمال استدارتها بعد التوافق مع موسكو.
الذي زاد الطين بلة في وجه القوى الدولية التي سعت إلى تقسيم المنطقة من جديد وفقاً لمناطق النفوذ التقليدية (سايكس بيكو 2) هو التدخل القوي والممنهج لحزب الله في معارك سوريا، على أساس طائفي بحت، وهو تدخل أعاد خلط الأوراق، حيث أن حضور حزب الله في المشهد يعني أن إيران تلقي "فلذات الأكباد" في القتال الدائر، وهو أمر يقلب المعادلة برمتها.
والمؤكد اليوم بعد كل هذه السجالات الدولية بشأن المشهد السوري، أن قطباً عالمياً جديداً، ثلاثي الأطراف قد تشكّل اليوم، وبات له ثقله الخاص الذي يمنع القوى الكبرى من القيام بأية إجراءات من شأنها أن تعكر صفو المسار السلمي لاشتباكات المصالح بين دول العالم، هذا القطب يرتكز إلى تحالف القوى الثلاث (روسيا والصين وإيران)، وهو تحالف "ممانعة" سيحول دون أي تدخل دراماتيكي لتغيير مسار المعارك على أبواب دمشق، ومن الواضح أن هذا القطب الجديد لا يعجبه قط تقسيم المنطقة على أسس لا تؤخذ فيها مصالحه بعين الاعتبار، وهذا يعني أن "الحرب الباردة" قد اندلعت من جديد، وإن بأدوات مختلفة، لذا فإن الصراع في سوريا مرشح للاستمرار حتى نهاية العام على أقل تقدير، إلا إذا أخذت مبادرة جنيف 2 مصالح هذه البلدان بعين الاعتبار وهي مصالح ليست بعيدة عن منهج ومسار السياسة السورية التي يمثلها النظام الحاكم حتى هذه اللحظة.
بقلم/ د. جميل مجدي
باحث مختص في الحركات الإسلامية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت