أخيراً تمكنت من استنقاذ كتابي الأسرى الأحرار ... صقورٌ في سماء الوطن، واستخلصته من الحجز، وأخرجته من محبسه من بين مئات الكراتين والعلب والحقائب ومختلف الأشياء والبضائع التي لا تشبه الكتب، ولا تتناسب معها، ما جعله غريباً بينهم، واستثناءً من الأشياء حوله، فلا يربطه بها سوى قانون الممنوعات، وأحكام التهريب، والشرطي الذي يقف عليها حارساً، مانعاً أحداً من الاقتراب منها أو مسها، مستنداً إلى قوانين قديمةٍ بالية، يعترف بأنها لم تعد صالحة، ولا ينبغي العمل بها في ظل التطور الكبير والتقنية الهائلة، ولكنه يقف في النهاية عاجزاً أمام القانون، خائفاً من المحاسبة والمسؤولية، رغم أنه اطلع على محتوى الكتاب، وقرأ بعضاً منه، وعرف أنه يتحدث حصراً عن معاناة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وليس فيه ما يحرض على السلطات، أو يشجع على الثورات.
أخرجت الكتاب من عتمة المستودع بعد إجراءاتٍ ومتابعاتٍ طويلة، وتوقيعاتٍ ومصادقات، انتهت بتوقيع مدير الجمارك، على قرار إبعاد الكتاب بصحبة مالكه من حرم المطار، لكن بعد أن ألزمتني إدارة الجمارك بتسديد نفقات حجزه، وكلفة حبسه، طوال المدة التي قضيتها في المغرب، بينما كان الكتاب رهين مستودعات جمارك المطار، فكان لزاماً علي أن أدفع بدل مبيتٍ وحفظٍ للكتاب، وإلا فإن مآله كان الحرق والإتلاف.
إلا أن الكتاب لم يغدُ حراً، ولم يطلق سراحه، ولم يسمح لي بحمله، أو الانفراد به وحدي، بل رافقني به موظفٌ من الجمارك المغربية في مطار محمد الخامس، بعد أن احتجز جواز سفري بيده، ليتأكد من أنني مسافر، وأن الكتاب سيشحن معي إلى بيروت، وأنه لن يتسلل إلى أحدٍ خارج المطار، فكانت رحلة ترحيله شاقة وغريبة، أشرف عليها موظفوا الخطوط الملكية، وأكدوا لموظف الجمارك المرافق أن الكتاب قد شحن، وأنه لم يعد يشكل خطراً، وقد استلم إفادةً بالشحن بالرقم والتاريخ، ورقم الرحلة ووجهتها وساعة انطلاقها، وبدوري وقعت على استعادة الكتاب، وأنه على حاله الأول، عدداً وحالة، فلا نقص ولا تلف ولا تمزيق فيه.
قال الموظفون والعاملون في الجمارك، إننا نستحي مما نفعل، ونخجل مما نقوم به، ولكننا مأمورين، لا نقوى على مخالفة القوانين والنصوص، والاعتراض على النظم واللوائح، إننا جنودٌ ننفذ سياسة من قبلنا، ونطبق قوانين من سبقنا، ولكننا مثلكم نرفض هذه القوانين، ونتمنى أن تتغير ونتبدل، ولهذا فنحن نقدر ثورتكم، ونحترم غضبتكم، ويعنينا أن تعلم سلطاتنا أن هذه الإجراءات سيئة، وأنها تضر بسمعة البلاد وتشوه صورتها، وأنها مدعاةٌ للتهكم والسخرية، فما نمنعه يدخل، وما نصادره ينشر، وما نحبسه ينتشر، وقد كان بإمكاننا أن ننظم دخول الكتب والصحف، والتخفيف من المتابعة والمراقبة، فهذا زمنٌ أقوى من القيد، وأثبت من قوانين التجهيل والتعمية.
لست أدري هل يدرك المسؤولون العرب أنه أصبح من المستحيل على أي نظامٍ أن يمنع المعرفة، وأن يحول دون الثقافة، وأن يقف في طريق التواصل وتبادل الأفكار، فقد بات من الغباء الشديد منع دخول الكتب، أو مراقبة المنشورات، أو فرض شروطٍ على النشر والتوزيع، بعد أن تكفلت الشبكة العنكبوتية ووسائل الاتصال الاجتماعي التي تتوالى وتتبارى وتتنافس في السرعة والانتشار، بنقل كل معرفة، وتعميم كل ثقافة، ونشر كل معلومة، بل إنها تتحدى إجراءات الحكومات، وضوابط الأنظمة والسلطات، وتخترق الحواجز، وتتجاوز الموانع، وتخلق بدائل كثيرة لكل محظورٍ أو ممنوع، في سباقٍ غير متوازن، بين إرادةٍ علمية واثقة، وعقولٍ مستنيرةٍ واعدة، وبين جهلٍ مطبقٍ وخائف، وعقولٍ متحجرةٍ مغلقة، لا تؤمن بالتطوير ولا تقبل بالجديد، ولا تتبع إلا كل تقليدٍ بائدٍ، وقديمٍ تالفٍ فاسد.
ما حدث لكتابي في المغرب يحدثُ لكثيرٍ غيري في أغلب الدول العربية، التي ما زال حكامها يخافون من الكلمة، ويرتعبون من الحرف، ويرتجفون من القلم، ويعتقدون أن القلم قادرٌ على أن يخط نهايتهم، وأن يضع خاتمةً لسلطاتهم واستبدادهم، فليست المغرب استثناءً أو حالةً فريدة، بل إن العديد من الحكومات العربية مازالت تلاحق الكتاب، وتعتقل الصحفيين، وتعاقب المدونين، وتعتقل المصورين، وتفرض رقابةً على صفحات الانترنت، وتحجب الكثير من المواقع، وتتجسس على أصحاب المجموعات، ومدراء الصفحات، وتمنع إدخال الكتب بأنواعها، وتفرض شروطاً على المكتبات ودور العرض ومعارض الكتب السنوية.
تظن السلطات العربية أنها تحمي المواطن العربي من الأفكار المدسوسة، والمفاهيم الدخيلة، والفلسفات الضالة، وأنها تحرص على الأجيال الطالعة من الانحراف والضلال، والوقوع في حبائل المجموعات التكفيرية المتشددة، أو الأحزاب الدينية المتطرفة، والحقيقة أن الأنظمة تخاف على نفسها من الثقافة، فهي لا تريد شعباً مثقفاً، ولا أجيالاً متطورة، بل تريد عبيداً لا يفهمون في غير الحلب والصر، ورجالاً يدورون كالساقية بحثاً عن الرزق والعيش الكفاف، وشباباً مهموماً بحاجاته الشخصية، ومتعه الفردية، ونساءً ينشغلن بالموضة والأزياء والمكياج وسبل التجميل، ويهمها أن يسود الظلام، وتتكرس الأمية، وتتراجع الأفكار الثورية، والمفاهيم الشبابية، مخافة أن تنقلب الشعوب عليها، وتطالب برحيلها أو تغييرها.
أهيب بكل عربيٍ أن يثور للكلمة، وأن ينتفض للحرف، وأن يكون نصيراً للقلم، وأن يحمي المصور، ويساعد المدون، ويحترم الكاتب، ويقدر المثقف، فهذه هي مكونات الثقافة، وهي مفردات المعرفة، وهي أدوات التطور والرقي، بها نحمي أنفسنا، ونقي أجيالنا من الاستعباد والذل، إذ لا أسهل من استعباد الجاهل، واسترقاق الأمي، وبها نستعصي على الاحتلال، ونقف بصلابةٍ في وجه قوى الاستكبار، ونتمكن من خلالها من إسقاط مؤامراتهم، وفضح مخططاتهم، وإفشال مشاريعهم، وقتل أحلامهم، والتصدي لأمالهم، بل والنهوض لمقاومتهم، والانطلاق لمواجهتهم.
الدار البيضاء في 5/9/2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت