أين يكمن الخطأ والصواب في المشهد المصري..؟

بقلم: د. مصطفى اللداوي


ترددنا كثيراً في الكتابة في المشهد المصري لأسباب ذاتية وموضوعية بالرغم من أننا قدمنا محاضرتين غير مكتوبتين حول ذلك بالاعتماد على ملاحظات صغيرة مدونة غير مكتملة في الملتقى الفكري في المنطقة الوسطى. حيث ذكرنا أن ما نقدمه هو قراءة أولية غير مكتملة الرؤية. ومع توالي الأحداث في المشهد المصري بدأت الأمور تتضح، وبدا واضحاً أن ما قمنا بقراءته استشرافياً هو ما حدث لدرجة أن بعضاً من حضر المحاضرتين يبتسم عندما يرانا، ويقول كأنكم كنتم تقرؤون من كتاب مفتوح أو تنجمون بالغيب. لقد شككنا منذ البداية بنجاح الشرعية الدستورية عندما تم اللجوء للانتخابات وفوز الرئيس مرسي بالحكم. وقلنا ما حدث ليس نهاية الثورة بل بدايتها، ومرحلة من مراحلها. واستندنا في تحليلنا هذا أن ما كانت تحتاجه مصر ليس انتخابات رئاسية ولا حتى انتخابات نيابية، وأن ما تحتاجه مصر هي شرعية ثورية أو توافقية. إذ أن نجاح الثورة يكمن في تحقيق أهدافها، وأن تحقيق هذه الأهداف يتم أولاً بهدم أجهزة النظام القديم وتفكيكها. وتفكيك النخبة السياسية والاقتصادية والأمنية للنظام السابق. وبالتالي يتم هدم كل مبررات وأركان النظام القديم بنهجه وبرامجه، وأركانه. إضافة إلى ذلك يجب تحويل شعارات الثورة وأهدافها إلى برامج بحيث يتم تحديد البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية ... الخ ضمن رؤية فكرية سياسية واضحة. وبالتالي كي تنجح الثورة يجب أن يكون هناك رؤية واضحة قد تسند على مفاهيم ليبرالية تقوم على الحرية والعدالة والتعددية والديموقراطية والمواطنة ... الخ. ويدون رؤية تفقد الثورة بوصلتها وتتخبط بين الشعاراتية وبين البرامجية، بين الأهداف وبين الآليات. كما يجب التفريق بين الأهداف الرئيسة والأهداف الثانوية.

إن سرعة الاحتكام للانتخابات للحصول على الشرعية قبل تحقيق أهداف الثورة هو الانتحار بعينه للثورة. بمعنى أنه لكي تتحقق أهداف الثورة لابد من تكاتف جهود جميع من قام بالثورة. حيث إن تقويض النظام القديم وبناء النظام الجديد يتطلب جهود الجميع لأن عملية الهدم ليس بالعملية السهلة لنظام تجذر في كافة مناحي الحياة المصرية لسنوات طويلة، وبالتالي عملية الهدم ليس عملية رأسية فحسب بل عملية أفقية تتسلل إلى نخب المجتمع والكثير من مؤسساته الأمنية والسياسية والاقتصادية الإعلامية. وتأتي عملية البناء كعملية أصعب من عملية الهدم، حيث يتطلب ذلك حشد كل الطاقات في جميع القطاعات الحكومية وغيرها. ومن هنا كان يجب الاحتكام إلى الشرعية الثورية من أجل بناء النظام السياسي في مراحله الأولى أو الانتقال إلى الشرعية التوافقية حيث يتم من خلالها إشراك كل مكونات الثورة حتى يتم تحقيق أهداف الثورة، وتطبيق شعاراتها وبرامجها من قبل الجميع. فالجميع يتحمل معركة الهدم، والجميع يتحمل معركة البناء. وقد تستمر هذه الحالة لمرحلة انتقالية قد تستمر لخمس سنوات. يتم من خلالها إكمال عملية الهدم، واستمرار عملية البناء، وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ... الخ. حيث أن تحقيق نجاحات اقتصادية قد تكون بنفس الأهمية والقدر لتحقيق نجاحات سياسية.

إن ما حدث في مصر كان خطأ بل خطيئة كبرى عندما تم الاعتماد على الشرعية الدستورية لنيل الشرعية السياسية في الحكم. وتم الدعوة للانتخابات قبل إكمال عملية هدم القديم، وقبل تحقيق أهداف الثورة. وبالتالي فإن الدعوة للانتخابات تعني تنافس مكونات الثورة، هذا التنافس يحدث في فترة انتقالية لم يتم فيها بعد تحقيق الأهداف. وهذا يعني تفتت قوى الثورة في مرحلة هم في أمس الحاجة إليها. وهذا يعني توقف مسار الثورة في عملية إنكفاء على الذات. والاتجاه إلى التاحر السياسي بدلاً من التوحد والاصطفاف المطلوب في هذه المرحلة. وهنا تم الانتقال من حالة التوحد والاصطفاف إلى حالة التناحر والتشرذم والاستقطاب. وتمت الانتخابات في أجواء تنافسية حيث فاز الأخوان المسلمين باعتبارهم التنظيم الأكثر تنظيماً، والأكثر تجذيراً في المجتمع المصري فكراً ومؤسسات. تم ذلك مقابل أحزاب قد شاخت منذ زمن طويل وأصبحت أحزاب فردية متكلسة، ومقابل تجمعات شبابية قد ساهمت مساهمة فعالة في الثورة ولكنها لم تعط الوقت الكافي للتحول لأحزاب مؤسساتية واضحة البرامج والرؤى. وهنا انتقلت الثورة من محاولة خلق حالة فكرية تقدمية تقوم على مبادئ المواطنة والحرية والعدالة إلى فكر ماضوي سلفي لا يعالج الواقع القائم، والأهداف المنشودة. وهذا يعني أنه بدلاً من إكمال أهداف الثورة من قبل جميع مكوناتها حدث القطف للثورة من قبل طرف واحد هو الإسلام السياسي المعتدل ممثلاً بحركة الإخوان المسلمين والإسلام السلفي الممثل في حزب النور. وقد تم ذلك دون إكمال الإخوان المسلمين مراجعاتهم الفكرية تمهيداً للمرحلة الانتقالية، أي كيفية الانتقال من المعارضة إلى الحكم، من التنظيم إلى السلطة. حيث إن ذلك يتطلب مراجعات نقدية وفكرية كبيرة لأن ذلك يعني تعزيز قيم الشراكة والمواطنة والحرية وتقبل الآخر في الفكر السياسي الإخواني.

وقد استند الإخوان المسلمون على الشرعية الدستورية أي الاحتكام إلى صناديق الانتخابات لنيل شرعيتهم في الحكم. وفي زهو الفوز لم يحاولوا معالجة الخطأ الذي تم بالسعي لتحقيق نوع من الشرعية التوافقية. وقد يرى البعض أن مجرد دعوة الأطراف الأخرى للشراكة يعني تحميل الآخرين مسؤولية عدم المشاركة. إن الدعوة وحدها لا تكفي فقد يفهم ذلك على أنه من باب المناورة السياسية. أي كان على الإخوان المسلمين معالجة إشكالية الاعتماد على الشرعية الدستورية بالإصرار حتى لو قدموا بعض التنازلات الحزبية السياسية على إشراك الآخرين لأن هدم النظام القديم يتطلب جهود جبارة، وتكاتف الجميع ومن الصعب على الإخوان وحدهم أن يقوموا بذلك، كما أن الإخوان المسلمين يصعب عليهم تحمل معركة البناء وحدهم في ظل تحديات داخلية وإقليمية ودولية. هذا إضافة إلى أن الإخوان المسلمين يفتقرون للخبرة الكافية في الحكم. فقد كانوا في المعرضة لعقود طويلة، وتم ملاحقة قياداتهم، وتم إيداعهم السجون. وبالتالي إدارة نظام الحكم لا تتطلب أفكار، وتجارب سجون ... الخ بل تتطلب كفاءة ودراية واسعة وقدرة كبيرة على وضع الرؤى والبرامج. كما أن قدوم الإخوان المسلمين للسلطة للمرة الأولى كان يستوجب أن يقدموا تجربة رائدة وجديدة في الشراكة السياسية، وذلك لإبعاد الصورة النمطية عنهم بأنهم لا يقبلون بالآخر، والعمل على طمأنة الآخرين بنواياهم الحسنة. ومن هنا وفي ظل الاصطفاف الذي حدث بعد الانتخابات تحولت قطاعات كبيرة من مكونات الثورة إلى المعرضة قبل تحقيق الثورة لأهدافها. وتُرك الإخوان المسلمين يواجهون معركة الهدم والبناء لوحدهم في حالة سياسية واقتصادية معقدة، وفي ظل وضع عربي وإقليمي غير مستقر، بل في حالة استقطاب حادة باتجاه الصراع وليس السلم.

وهنا يبرز بشكل جلي كيف تموضعت الحالة السياسية المصرية باتجاه تنافس قوى الثورة. وبالتالي مارس الإخوان المسلمون سياسة الإقصاء معتمدين فقط على الشرعية الدستورية، ورفعوا شعارها في وجه كل من انتقدهم. وبالتالي في ظل الإشكالية في معالجة معركة الهدم تم الاصطدام مع أركان النظام السابق في مؤسسات الجيش والإعلام والقضاء لوحدهم دون دعم من قوى الثورة، كما لم يتم احتواء العناصر الشبابية الذين كانوا قادة ووقود الثورة المصرية في يناير 2011م. كما لم يتم تحقيق إنجازات اقتصادية واضحة وملموسة للشعب المصري الذي هو بحاجة ماسة لها. ومن هنا وفي ظل عدم الخبرة الكافية في الحكم، وثقل التركة في عملية الهدم والبناء، وفي ظل تأمر جهات عربية وأجنبية على الثورة، وفي ظل حتى إقصاء الحلفاء كما تم مع حزب النور، حدث الاصطفاف الشعبي والنخبوي من الليبراليين والقوميين واليساريين أي كل مكونات الثورة من غير الإخوان المسلمين ضد الإخوان المسلمين. بل وصل الأمر إلى نوع من التحالف الضمني مع أركان النظام القديم (ما يطلق عليهم الفلول). وهذا الأمر ما كان يمكن أن يحدث لو كان هناك شرعية ثورية أو توافقية للنظام السياسي. وبالتالي تم الانتقال للاستقطاب الحاد، وبروز حركة تمرد وصولاً إلى ما حدث قبيل ويوم 30/يونيو 2003م. حيث إن ما حدث من تدخل للجيش تحت ذريعة منع الصراع الأهلي يعني عملياً ليس هزيمة للإخوان المسلمين بل للقوى الليبرالية والقومية واليسارية ... الخ. لأن تدخل الجيش يعني الانتقال من المعالجة السياسية للأزمة القائمة إلى المعالجة الأمنية. وهو ما تم في فض اعتصام ميدان رابعة العدوية وملاحقة قيادات الإخوان بالاعتقال والمحاكمات.

إن ما حدث في مصر يعني حالة من الإقصاء والإقصاء المضاد، وضربة للثورة المصرية التي لم تكمل معركة الهدم، ولم تحدث تقدماً يذكر في عملية البناء. ومن هنا فإن معالجة الوضع المصري لن يتم بالعودة لحكم العسكر بل يعني إجراء مراجعة نقدية شاملة لجميع القوى السياسية في مصر لاسيما قوة ثورة يناير 2011م، أين كان الخطأ وأين كان الصواب. وأن يتم استعادة الثورة ولكن ضمن رؤية جديدة تستند على الاعتماد على الشراكة الثورية أو التوافقية بين جميع مكونات الثورة. وهذا يتطلب حالة تصالحية بين مكونات الإسلام السياسي للثورة مع المكونات الليبرالية والقومية واليسارية للثورة، هذا إضافة إلى ضرورة تراجع الاصطفاف الطائفي في عملية تصالحية مجتمعية تعزز ثقافة المواطنة بعيداً عن الاستقطاب الطائفي. فالتحديات لمصر داخلياً وإقليماً ودولياً كبيرة وبدون اصطفاف جميع مكونات الثورة لاستردادها والسير قدماً معاً في عملية الهدم والبناء يعني للأسف إجهاض الثورة، وإضاعة الشعب المصري لحظة تاريخية كان يمكن أن تشكل نقطة تحول في التاريخ المصري لمعاصر يجعل مصر تتبوء المركز الذي يليق بها كقلب العالم العربي. وذلك فإن المعالجة السياسية لتداعيات أحداث 30 يونيو 2013م وما بعدها هي الطريق السليم لاسترداد الثورة أما ممارسة الإقصاء والجنوح للمعالجة الأمنية يعني سير الدولة في نفق مظلم، وسيناريوهات من الفعل وردات الفعل لا يٌحمد عقباها. فلا يمكن إقصاء نصف المجتمع، ولا يمكن تحقيق التقدم بنصف المجتمع في ظل التحديات الكبيرة القائمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت