الإسرائيليون لا يعترفون بالحقوق، ولا ينزلون عند الحق، ولا يسلمون بسياسة الأمر الواقع، ولا يخضعون للابتزاز، ولا يستسلمون للصعاب، ولا يقفون عند العقبات، ولا يقرون بعدم ملائمة الظروف، وأن ما هو متاح هو أفضل المعروض، وخير الفرص، أو أن الزمان لن يجود عليهم بمثلها، ولن يقبل العرب بأقل منها، ولن يقدموا تنازلاً أكثر، وأنهم لن يتخلوا عن مزيدٍ من الثوابت، ولن يتراجعوا عن قديم المواقف، لذا فلا مكان عندهم للمثل العربي "عصفورٌ في اليد، خيرٌ من عشرةٍ على الشجرة"، ما يجعلهم لا ينتهزون فرصةً لا تحقق أهدافهم، ولا يرحبونٍ بحلٍ يقضي على أحلامهم، ويهدد مستقبل وجودهم وكيانهم، ولا يتمسكون باقتراحٍ قد يبدو لهم اليوم أنه الأفضل والأحسن، فتراهم لا يستعجلون الحل، ولا ييسرون التفاوض، ولا يخشون من الفشل، ولا يأبهون للانتقادات والاعتراضات.
ليس في هذا مدحٌ للإسرائيليين أو إشادةٌ بسياستهم، أو اعترافٌ بعبقريتهم، وإقرارٌ بتميزهم وتفوقهم، أو قبولٌ بمنهجهم، وموافقة على طريقة تفكيرهم، بل هو بيانٌ للعقلية الإسرائيلية، وتوضيحٌ بسيط لمنهجهم في التفكير، وطريقتهم في التفاوض، وعقليتهم في التعامل مع حقائق اليوم، وثوابت الماضي والتاريخ، وهي محاولة للاستدلال بالأحداث، والاستئناس بما ورد في قصصهم وحكاياتهم، مع رسلهم وأنبيائهم، ومع ملوكهم وحكامهم، ومع خصومهم وحلفائهم، في الماضي البعيد وفي الحاضر المعاصر، عل المؤمنين بالتفاوض معهم يعلمون، ويتعرفون على طريقتهم، ويدركون نهاية الطريق الذي يسلكونه معهم، بأنه طريقٌ لا أمل فيه، ولا نجاة معه، ولا مستقبل له، إنما هو مضيعة للجهد، واستخفافٌ بالعقل، وتمريرٌ للوقت، وتثبيتٌ لوقائع مزورة، وبيناتٍ مختلقة، في انتظارِ ظرفٍ مناسب لإعلان الانقلاب، والتنكر لكل الاتفاقيات والمعاهدات والتفاهمات.
يعتقد الإسرائيليون أن هذه السياسة قد تنطلي على الفلسطينيين والعرب، إذا نجحوا في تمريرها على المفاوضين والمسؤولين والحكام، وأن العرب والمسلمين قد ينسون مع مرور الوقت، وتقادم الأزمنة والأيام، ما كان سائداً والحال الذي كان، وأنهم قد يقبلون بالوقائع الجديدة في حال ثباتها، وأنهم لن يطالبوا بتغييرها ليقينهم أنه لم تعد لديهم القدرة على ذلك، وأن الإسرائيليين لن يقدموا تنازلاً، ولن يقبلوا بالتغيير، أو العودة إلى الماضي والقديم، إذ يستحيل بالنسبة إليهم تفكيك المستوطنات وهدمها، وطرد واجتثات مئات الآلاف منها، وتخريب بيوتهم، وتدمير مؤسساتهم ومعاملهم ومصانعهم، وإخراجهم من الأرض التي عاشوا فيها سنيناً، وولد لهم فيها أولاد، ونشأ لهم فيها جيلٌ أو أكثر، وأصبح لهم فيها أحلامٌ وذكريات، وماضٍ وخصوصيات.
يعتمد الإسرائيليون مبدأ الفصل التام بين المفاوضات وبين البرامج العملية للحكومة والمؤسسات، ففي ظل المفاوضات تعمل الجرافات ولا تتوقف، وتواصل الآلياتُ الثقيلةُ أعمالها ولا تهدأ، وتستمر أعمال الحفر والتنقيب، والبناء والتشييد، وتتواصل عمليات اقتحام المسجد الأقصى، والصلاة في ساحاته، والسيطرة على مساحاتٍ من باحاته، وعيونهم تتطلع إلى محاكاة ما قاموا به في الحرم الخليلي، فقد دخلوه عنوةً، وزاحموا المسلمين أماكنه وزواياه، ثم قاسموهم فيه، وأخذوا منه أكثر مما أبقوا لهم، ثم جردوهم مما بقي عندهم، وحرموهم من مسجدهم، وانتهوا إلى تحديد أوقات الصلاة، وتدخلوا في رفع الآذان أو حجبه، وثبتوا حقهم في أن يجعلوا الحرم لهم وحدهم أياماً كاملة، لا يقاسمهم الفلسطينيون فيه، ولا يعكرون عليهم صفو الاحتفالات في باحاته، فلا يدخلونه ولا يصلون فيه، بل لا يفتح جيرانه نوافذهم المطلة على الحرم، لئلا تزعج الزوار والمصلين اليهود.
الإسرائيليون يتطلعون مع الزمن لإخلاء المناطق المحتلة من سكانها الفلسطينيين وملاكها العرب، لتكون مع الوقت خاليةً من الفلسطينيين، نقيةً لا شوائب فيها، وهم يعملون لتحقيق هذا الهدف ليل نهار، في السر والعلن، في الوقت الذي يستمرون فيه بالتفاوض مع الفلسطينيين، والخوض في كل التفاصيل، والانشغال في دقائق الأمور، ليصلوا في نهاية المطاف إلى إقرار العرب والفلسطينيين بيهودية الدولة العبرية، التي لا ينبغي أن يكون فيها عربٌ، مسلمون أو مسيحيون، وربما لا يريدون للدروز أن يكون لهم مكان بينهم، فلا يشاركونهم كيانهم اليهودي الذي يحلمون به.
يتقدم الخبراء والاستراتيجيون الإسرائيليون بالنصح والرأي لرئيس الحكومة الإسرائيلية، والوفود المفاوضة، بضرورة إطالة أمد المفاوضات، وعدم البت في أيٍ من القضايا المطروحة، معتقدين أن الوقت لم يحن بعد للوصول إلى حلٍ نهائي، وأن لم يعد بيد الفلسطينيين أوراقاً رابحة، ولا أدوات ضغطٍ وتأثير، فضلاً عن أنهم أصبحوا وحدهم، لا يساندهم أو يشاركهم التفاوضَ أحدٌ من العرب، فلا سبيل أمامهم سوى الاستمرار في المفاوضات، دون أي شروطٍ مسبقة أو اعتراضاتٍ معرقلة، وإن أبدوا خلاف ذلك، فلم يعد أمام السلطة الفلسطينية خياراً آخر سلكه، وأن المستقبل القادم سيحمل معه تنازلاتٍ فلسطينية جدية، وقبولاً بالعروض الإسرائيلية المقترحة، ولعل الأساس الذي أرساه رئيس الحكومة الإسرائلية الأسبق اسحاق شامير، الذي ذهب إلى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، بأن المفاوضات مع الفلسطينين ستستمر عقوداً، وأنهم لن ينالوا منها بعد ذلك إلا ما نريد.
تخطئُ القيادة الفلسطينية كثيراً عندما تجرد الشعب الفلسطيني من سلاحه المقاوم، وتحرمه من حقه في استخدام القوة في مواجهة المحتلين الإسرائيليين، فهي بذلك تؤسس لواقعٍ يريده الإسرائيليون، ويتمنون اعتماده واستمراره، إذ لا تخيفهم كل أشكال المقاومة الأخرى عدا مقاومة السلاح، وهم يأملون تثبيت هذا الواقع ويعملون من أجل استبعاد أي خياراتٍ أخرى.
ويخطئ الإسرائيليون والخبراء والاستراتيجيون والمستشارون الصهاينة، عندما يعتقدون أنهم يستطيعون خلق وقائع جديدة تنسي الفلسطينيين حقهم، وأنهم بإجراءاتهم سيتمكنون من تغيير الواقع، وتزييف الحقائق، وغسيل دماغ العرب والمسلمين، ودفعهم باتجاه التخلي عن حقوقهم، والقبول بسياسات وافرازات الأمر الواقع، وما علموا أن ثوابتنا عقيدة، ومقدساتنا جزءٌ من إسلامنا، وحقوقنا أصلٌ في ديننا، ونصٌ في كتاب ربنا، فلا زمنٌ ينسينا، ولا قهرٌ يركعنا، ولا تآمرٌ يقضي علينا، ولا شياطين في الأرض مردة تستطيع أن تشوه عقيدتنا، وتحرف ثوابتنا.
[email protected] بيروت في 12/10/2013